نعمت شفيق: من الإسكندرية إلى لندن.. في أكبر مؤسسة اقتصادية بريطانية

" مجلة جنى " تُدعى «عمدة الأسواق المالية» و«أقوى امرأة في لندن». اختارتها مجلة فوربس في 2016 الماصي وللعام الثاني على التوالي ضمن قائمة الـ 100 لأكثر النساء قوة ونفوذًا في العالم  ليأتي ترتيبها في المركز 59 في القائمة. قال عنها السير «سوما تشاكرابارتي» رئيسها السابق في وزارة «التنمية الدولية»، ورئيس «البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية» الآن «هناك فولاذ موجود داخل القفَّاز المخمليّ» كناية عن شخصيتها الصلبة. وصفها الذين يعرفونها قائلين «إنها تدمج السحر مع الطموح الصلب الذي يشبه الصخر». وفقًا لـ«فاينانشال تايمز».

نعمت شفيق أو «مينوشي» كما يُطلق عليها في الغرب على عرش الاقتصاد البريطاني

تشغل نعمت شفيق الآن منصب نائب محافظ بنك إنجلترا، منذ أغسطس (آب) 2014 وحتَّى 31 يوليو (تموز) 2019،وهو البنك المركزي للمملكة المتحدة، كما أنها عضو في مجلس إدارة «هيئة التنظيم التحوطية» PRA، و«لجنة السياسة النقدية» MPC، و«لجنة السياسة المالية» FPC، ومجلس الإدارة Court of Directors داخل البنك.

مما يلقي على عاتقها بمسئوليات كبيرة داخل بنك إنجلترا، حيث قال «أليساندرو لايبولد» إبان توليها هذا المنصب، وهو مسئول سابق في صندوق النقد الدولي، ويعرفها جيدًا «ستكون مهمة صعبة في بنك إنجلترا، ولكنها تملك القدرة التحليلية والشخصية للتعامل معها ببراعة».

أمَّا عن مسئولياتها في بنك إنجلترا، فهي مسئولة عن إعادة تشكيل عمليات البنك والميزانية العمومية، بما في ذلك ضمان الممارسات الخاصة بإدارة المخاطر الكبيرة، وتصميم وتنفيذ التيسير الكمي من جانب لجنة السياسة النقدية. كما أنَّها تشرف أيضًا على تنفيذ إصلاحات متعلقة بالجنية الإسترليني للبنك، وقيادة عمل البنك لجعل الأسواق المالية عادلة وفعالة، واستعراض وتعزيز المجالات المصرفية وأسواق البنك، بما في ذلك معلومات عن السوق، وإصلاح نظام المدفوعات ذات القيمة العالية. كما أن لديها مسئولية مشتركة في مراقبة وتحليل والمشاركة الدولية للبنك. كما أنها تمثل البنك في الجماعات والمؤسسات الدولية، بما في ذلك نواب مجموعة العشرين، وفي مشاركة البنك مع «صندوق النقد الدولي» والبنوك المركزية في الخارج، وبنك «التسويات الدولية» BIS.


صورة تجمع أعضاء لجنة السياسة النقدية الحالية لبنك إنجلترا وفيهم السيدة نعمت شفيق.

الخروج من رحم الفقر

ولدت نعمت شفيق في العام 1962 في مدينة الإسكندرية، مصر. وفي سن الرابعة رحلت عائلتها إلى الولايات المتحدة؛ بعد أن خسر والدها كل شيء، خلال عمليات «التأميم» التي كانت تجريها الحكومة آنذاك في عهد الرئيس «جمال عبد الناصر». ترعرت نعمت شفيق في الولايات المتحدة، ولم تعد إلى مصر، إلا عندما كانت في سن المراهقة، حيث التحقت بالمدرسة الأمريكية بالإسكندرية المعروفة باسم «شدس» ثم تخرجت من المدرسة الثانوية والتحقت بالجامعة الأمريكية في القاهرة. ظلت في الجامعة الأمريكية عامًا واحدًا، ثم ذهبت إلى جامعة «ماساتشوستس –أمهرست» بالولايات المتحدة حتى أكملت شهادة البكالوريوس في الاقتصاد والسياسة.

وفي معرِض الإجابة على سؤال حول «لماذا اهتمت بقضايا التنمية الاقتصادية؟» أثناء إحدى المقابلات التي تمت معها في العام 2001 مع «هاري كريسلار» في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، قالت إن اهتمامها بالتنمية يأتي من حقيقة أن عائلتي تعرضت للتأميم، وعندما حدث ذلك كنت طفلة، وغادرت عائلتي مصر إلى الولايات المتحدة، تلك التجربة من التأميم والصراع مع دور الدولة التي تحاول السيطرة على الموارد؛ لإعادة توزيعها، تلك التجربة أثرت في شخصيتي وبلورت اهتماماتي، فعندما تولد في بلد فقير مثل مصر، تكون محاطًا بالفقر، ولذلك دائمًا يكون هناك اهتمامٌ طبيعي بمعرفة السبب الذي يجعل بعض الناس أغنياء، والبعض الآخر فقراء.

التوجُّه للعالمية

بعد أن حصلت نعمت شفيق على بكالوريوس الاقتصاد والسياسة عادت إلى مصر؛ لتعمل لمدة عامين على قضايا التنمية في الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في مكتب القاهرة، ثم أكملت درجة الماجستير بعدها في الاقتصاد من كلية «لندن للاقتصاد» LSE، وحصلت على الدكتوراه في الاقتصاد من كلية «سانت أنتوني» بجامعة أكسفورد.

عندما تم سؤالها أثناء المقابلة حول موضوع رسالة الدكتوراه الخاصة بها في جامعة «أكسفورد»، أجابت بأنها كانت عن دور القطاع الخاص والقطاع العام في مصر، وقالت إن ذلك كان بطريقة أو بأخرى محاولة للإجابة على السؤال التكويني الذي صاحبها منذ الصغر، حول أسباب وجود أناس فقراء وآخريين أغنياء، لذا فقد عات إلى مصر لإجراء بعض أعمال الاقتصاد القياسي، حيث كان ذلك ضروريًا لتحقيق متطلبات شهادة الدكتوراه. «كما أنني قضيت الوقت في زيارة مائة من المؤسسات، وفعلًا ذهبت إلى المصانع والشركات؛ في محاولة لفهم ما الذي يجعل القطاع الخاص يقرر الاستثمار، وكيف ـ تحديدًا ـ تعمل هذه الشركات، وكيف تتعامل مع الحكومة».


الدكتورة نعمت شفيق في قسم الاقتصاد بجامعة وارويك أثناء إلقاء إحدى المحاضرات.

أصغر نائب لرئيس البنك الدولي

لم تكن تدري الفتاة المصرية أنها في العام 2004 ستصبح أصغر نائب لرئيس البنك الدولي، وهي ابنة السادسة والثلاثين ربيعًا، حيث كانت مسئولة عن حافظة استثمارات مشروعات القطاع الخاص والبنية التحتية بحوالي 50 مليار دولار، كما أدارت المجموعات الدولية؛ لتقديم المشورة بشأن السياسات العامة، والديون والاستثمارات في الأسهم، بالاشتراك مع مؤسسة التمويل الدولية في مجالات النفط والغاز والتعدين والاتصالات والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وتمويل المشاريع وضماناتها.


السيدة نعمت شفيق تستمع إلى محاضرة «بير جاك وبسون» أثناء الاجتماع السنوي للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي في 25 سبتمبر (أيلول) 2011.

الاندماج داخل السلك الوزاري البريطاني

في مارس (آذار) 2008 تم تعيين نعمت شفيق في منصب السكرتير الدائم لوزارة التنمية الدولية بالمملكة المتحدة، حيث كانت الرئيس التنفيذي لقسم برنامج المساعدات الثنائية في أكثر من 100 دولة، وكذلك السياسات متعددة الأطراف، وتمويل الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والمؤسسات المالية الدولية، وتطوير السياسات العامة والبحوث. كما كانت مسئولة عن 2400 موظفًا وميزانية قدرها 60 مليار دولار. كانت الواجهة الرئيسة للوزراء، كما كانت تظهر بشكل منتظم أمام البرلمان، وتمثل قسم المعاملات الخارجية للوزارة. خلال فترة ولايتها التي استمرت من مارس (آذار) 2008 إلى مارس (آذار) 2011 وصفها وزير التنمية الدولية بأنها قائد دولي معترف به في التنمية.

ثمّ .. إلى صندوق النقد الدولي

في العام 2011 شغلت شفيق منصب نائب المدير العام لصندوق النقد الدولي، واستمرَّت حتى قدمت استقالتها في العام 2014. كانت مسئولة عن عمل صندوق النقد الدولي في أوروبا والشرق الأوسط، وعن ميزانية إدارية قدرها مليار دولار لصندوق النقد الدولي، وعن سياسات الموارد البشرية لـ 3000 موظف، والمساعدة الفنية والتدريب لصندوق النقد الدولي على مجموعة متنوعة من قضايا استقرار الاقتصاد الكلي والاستقرار المالي. ترأست بانتظام مجلس إدارة صندوق النقد الدولي، وتمثيل المنظمة في مجموعة متنوعة من المنتديات العالمية.

لدرجة أنها حلت محل رئيس صندوق النقد الدولي السابق «دومينيك ستراوس-كان» بعد اعتقاله بتهمة الاعتداء الجنسي، حلت محله في اجتماع مهم لمنطقة اليورو في وقت كانت الأزمة الاقتصادية والمالية تضرب فيه منطقة اليورو، وكان الاجتماع يبحث في أمور كبيرة ومهمة، كانت على المحك في ذروة المحادثات حول السندات اليونانية. أثبتت نعمت شفيق كفاءة في التعامل مع الأزمة برباطة جأش، وهدوء كبير. وصفتها «كرستين لاجارد» مديرة صندوق النقد الدولي بالنزاهة والإخلاص، وبأنها قائدة رائعة.

في العام 2014 قدمت نعمت شفيق استقالتها من منصبها في صندوق النقد الدولي؛ لتنضم إلى أقدم ثاني بنك مركزي في العالم، وواحد من أكبر البنوك في العالم. تم تعيينها للإشراف على الأسواق والبنوك، ولتعيد صياغة ممارسات إدارة المخاطر، وتحقيق الاستقرار في معدلات التضخم في المملكة المتحدة، والإشراف على المراقبة الدولية للبنك. في هذا العام دعت إلى «قلب جديد»: أي منظومة جديدة لأنظمة الدفع الإلكتروني في البلاد، والتي تسدد نحو 500 مليار جنيه إسترليني في اليوم الواحد، والتي انهارت لوقت قصير في العام 2015.


نعمت شفيق ممثلة صندوق النقد الدولي ووزير المالية الغاني «سيثتركبير» بعد التوقيع على مذكرة تفاهم لإنشاء مركز مساعدة فني إقليمي «AFRITAC» في العاصمة أكرا في أواخر 2013.

تكريمات واحتفاءات

في العام 2015 أختارتها مجلة «فوربس» كأول مصرية ضمن قائمة الـ 100 لأكثر النساء نفوذًا في العالم في المرتبة 66 حيث كانت «أنجيلا ميركل» على رأس القائمة، وفي العام الحالي اختارتها «فوربس» لأيضًا، ولكن في مرتبة متقدمة عن العام السابق في المركز 59 بفارق 7 مراكز عن العام 2015. كما ذكرت المجلة أن نعمت شفيق تلعب دورًا مهمًا في إعادة تشكيل إدارة البنك المركزى البريطانى وأدائه.

تحمل نعمت شفيق الجنسيات المصرية والبريطانية والأمريكية، وتتحدث ثلاث لغات هي الإنجليزية والعربية والفرنسية. تزوجت من «رافييل جوفين» في عام 2002، ولديها ابن وابنه، بالإضافة إلى ثلاثة أطفال من زوجها. في سردها لاهتماماتها، تقول شفيق بأنها كالتالي «العائلة، الأصدقاء، المتاحف، المسرح، القراءة في بعض الأحيان، المشي، اليوجا»، ولا زالت والدتها تعيش في مصر.

قبل انضمامها إلى البنك الدولي كانت نعمت شفيق قد ترأست حوالي ست مجموعات استشارية دولية، وخدمت في سبع مجالس على مجموعة واسعة من القطاعات والقضايا. كما شغلت العديد من المناسب الأكاديمية في كلية وارتون لإدارة الأعمال بجامعة «بنسلفانيا»، وفي قسم الاقتصاد في جامعة «جورج تاون».

في العام 2015 كرمتها الملكة إليزابيث في عيد ميلاد الملكة، ومنحتها لقب «السيدة القائد» وهي رتبة فائقة الامتياز تمنحها الإمبراطورية البريطانية، وذلك نظير خدماتها في الإدارة العامة والاقتصاد العالمي. كما أعلن رئيس الوزراء البريطاني «ديفيد كاميرون» في ديسمبر (كانون الأول) الماضي عن تعيين الدكتورة نعمت شفيق في منصب عضو مجلس أمناء المتحف البريطاني لمدة أربع سنوات بجانب أربعة شخصيات أخرى، هي: الرئيس التنفيذي، والعضو المنتدب، لشركة أليانز «إليزابيث كورل»، والإعلامية والكاتبة الصحفية «موريل جراى»، ورجل الأعمال البريطانى ورئيس لجنة الاستثمارات بجامعة أكسفورد السير «بول رودوك»، ومدير سلسلة متجر ويتروز«مارك برايس».

تسير الدكتورة نعمت شفيق بخُطا ثابتة نحو تولي إدارة بنك إنجلترا؛ عندما يتنحى المحافظ الحالي «مارك كارني»؛ لتصبح أول محافظ للبنك من السيدات. لقد حققت مكانة متميزة لها بين الشخصيات الاقتصادية على المستوى الدولي، حتى كما قالت عنها صحيفة «تليجراف» «إن نعمت شفيق لفتت انتباه عالم الاقتصاد والمال في بريطانيا».