الدكتورة نزيهة الدليمي ودورها في تاريخ الحركة الوطنية والسياسية العراقية

" مجلة جنى " حفل تاريخ العراق المعاصر بالعديد من الشخصيات الوطنية المرموقة التي أدت دوراً مهماً في الحياة الفكرية والسياسية والاجتماعية في العراق.. وقد أولت المؤسسات الأكاديمية اهتماماً لدراسة تلك الشخصيات تقديراً وعرفاناً بما قدمته من خدمات مازالت تذكر بالفخر والاعتزاز. وفي هذا المجال قُدّم هذا الجهد العلمي عن واحدة من الشخصيات النسائية التي حملت هموم العراق ومعاناته، وجسدتها في مسيرتها الوظيفية والاجتماعية والسياسية.. وهي الدكتورة نزيهة الدليمي (1924-2007)، التي استطاعت أن تشق طريقها وتحقق قدراً من طموحاتها على الرغم من الظروف الصعبة التي مر بها العراق من جهة، والأوضاع الاجتماعية التي كانت تعيشها المرأة العراقية من جهة أخرى، إلى جانب مشاركتها في الحركة النسوية في أربعينيات القرن الماضي من خلال كتابتها مقالات عدة، تطرقت فيها إلى واقع المرأة وسبل النهوض بها، لأنها تعد العنصر الأساس مع الرجل في بناء المجتمع وتطوره في مختلف الميادين، ومشاركتها في مؤتمرات نسوية عالمية كان لها فيها أثر كبير وواضح في مقرراتها.

ما تميزت به الدكتورة نزيهة الدليمي وجعلها من النساء العراقيات المتميزات، إيمانها بالأهداف التي نادت بها، وحجم التضحيات التي قدمتها اجتماعياً وسياسياً للوصول إليها، ما رفع من رصيدها بين فئات الشعب العراقي بمختلف طوائفه ورجالات الحكومة بعد قيام ثورة الرابع عشر من تموز 1958 الذين قرروا ضرورة مشاركة المرأة في الدولة العراقية، وهذا ما حدث في الثالث عشر من تموز عام 1959 عندما صدر مرسوم جمهوري بتعيين د. نزيهة الدليمي وزيرة للبلديات فكانت أول امرأة في تاريخ العراق والمشرق العربي وصلت إلى هذا المنصب.

نجح الباحث العراقي موفق خلف غانم في تقديم صورة ترتقي إلى مكانة د. الدليمي ودورها المهني والاجتماعي والسياسي اعتماداً على الوثائق وكتب المذكرات والمصادر والمراجع والصحف والمقابلات لشخصيات عاصرت د. الدليمي، فجاء الكتاب تاريخاً يتناسب ودورها المتميز في مسيرتها النضالية والمهنية وخدمتها لشعب العراق، في وقت كان بأمس الحاجة إلى معالجة واقعه الاجتماعي والسياسي والاقتصادي.. هكذا قدم أ.د نذير جبار حسين أستاذ التاريخ المعاصر كلية الآداب جامعة بغداد.

تضمن الكتاب أربعة فصول:

الفصل الأول: (أوضاع المرأة العراقية ومراحل تطورها 1918-1924).

الفصل الثاني: (بدايات التكوين ونشاطها السياسي المبكر 1914-1957).

الفصل الثالث: (تنامي دورها الوطني والسياسي في ظل صعود اليسار العراقي 1958-1964).

الفصل الرابع: (حقبة النضال الوطني في عهد المعارضة السياسية وأهم آثارها الفكرية).

******

في العام الدراسي 1940-1941 تأهلت نزيهة للدخول إلى الكلية الطبية الملكية، وقد ساعد نزيهة الدليمي دخول الحياة الجامعية (كلية الطب البشري) على الاحتكاك بقطاع الطلبة الذي كان له دور مؤثر في صياغة الأحداث السياسية في العراق في تاريخ الحركة الوطنية. وتأتي أهميته في ما يمتلكه الشباب من حماس واندفاع، إضافة إلى  أنهم الأكثر قرباً وتفهماً لما يجري في العالم من تحولات فكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية.. فكان لنضال الطلبة تأثير على الوضع السياسي، خاصة في عهد الانتداب البريطاني القائم على السيطرة والتضييق على الحريات الديمقراطية، وكانت كلية الطب من أهم الكليات التي شاركت في التظاهرات الواسعة ضد الانتداب البريطاني من أجل الاستقلال.

في خضم تلك الأجواء المشحونة سياسياً، عاشت د. نزيهة مرحلة الدراسة الجامعية مشاركة بحلقات النقاش السياسي التي كانت تدور بين الطلبة مؤثرة ومتأثرة بآراء زملائها ذوي الميول الديمقراطية والتقدمية.

الجمعية النسائية لمكافحة النازية

في حينه تشكلت الجمعيات والنوادي الثقافية المطالبة بحقوق المرأة، واقتصر نشاطها على الخدمات الاجتماعية والأعمال الخيرية، كما تشكلت في الوقت نفسه الجمعية النسائية لمكافحة النازية عام 1942 وكان لها أهداف أخرى تتضمن التصدي للأفكار النازية التي أفرزتها حقبة ما بعد الحرب العالمية الأولى، وهذا ما أكد طابعها السياسي وكان لها علاقة بالحزب الشيوعي العراقي.

تعرفت نزيهة على نشاط الجمعية خلال دراستها عن طريق إحدى زميلاتها في كلية الطلب، فانتسبت إليها وبرزت شخصية نزيهة بعد انتمائها للجمعية ومشاركتها في جميع فعالياتها، وبعد زوال خطر النازية وانتهاء الحرب العالمية الثانية عام 945 بانتصار الحلفاء على دول المحور انحسر نشاط الجمعية فعقدت عضوات الجمعية اجتماعاً نسائياً جماهيرياً حضرته 400 امرأة تقرر فيه تغيير اسم الجمعية إلى (جمعية الرابطة النسائية لتحرير المرأة)، وإصدار مجلة ناطقها باسمها، غير أن الحكومة وأجهزتها شنت حملة كبيرة ضد الجمعية التي أصبحت مركزاً لاستقطاب فئات اجتماعية معارضة لسياسة الحكومة.

 وقد تزامن وجود نزيهة في جمعية الرابطة مع ظهور (حزب التحرر الوطني) الواجهة الرئيسية للحزب الشيوعي العراقي الممنوع من النشاط، فقررت نزيهة الانتماء للحزب الشيوعي عام 1947 بعد عام من العمل السري في صفوفه، وحصلت على العضوية عام 1948. تقول: (إنه من أجل تغيير الواقع الاجتماعي لابد من الانخراط في صفوف أحزاب وطنية علمانية، وأني لو ولدت ثانية لسلكت الطريق نفسه، لأن هذا كانت فيه سعادتي، سعادتي في الكفاح ضد ما أرادوا من تخلف في مجتمعنا ومن تبعية للاستعمار).

بعد أن تخرجت طبيبة عام 1947 تميز عملها بصلات وعلاقات يومية واسعة مع الناس واهتمام بأوضاعهم، وقد شهد العراق في حينه تدهوراً كبيراً في المستويين الخدمي والاجتماعي الذي كان الجانب الصحي جزءاً مهماً منه. فقد انتشرت الأمراض انتشاراً واسعاً مثل مرض السل والبُجل (السيفيليس)، وكان من الأمراض المستوطنة واسعة الانتشار في العراق، فكانت نزيهة قريبة جداً من مشاكل الناس وأمراضهم وهمومهم الاجتماعية والصحية.

عام 1950 طرحت منظمة الصحة العالمية مشروعاً لمكافحة مرض البُجل، فانضمت د. نزيهة فوراً لحملة المكافحة ضمن فرق ميدانية زارت المناطق الموبوءة والأشد خطورة، ومن خلال عملها اطّلعت على معاناة العراقيين من الشمال إلى الجنوب، معاناة النساء والأطفال خاصة.. البؤس الاجتماعي الذي يعانيه المجتمع العراقي عامة والمرأة خاصة، وقد نبه فريق العمل نزيهة أكثر من مرة للحفاظ على حياتها وأهمية أخذ تدابير احترازية حتى لا تقع فريسة المرض.

رابطة الدفاع عن حقوق  المرأة العراقية

عام 1952 أعلن عن تأسيس منظمة نسائية جماهيرية (رابطة الدفاع عن حقوق المرأة العراقية)، وانتخبت نزيهة أول رئيسة للرابطة لدورها الفعال في الحركة النسائية. لم يكن أسلوب عمل نزيهة في صفوف الحركة النسائية يقتصر على حقل الخدمة الاجتماعية فحسب، بل إنها عملت على ربط حركة تحرير المرأة بالنضال الوطني. النهج الذي استمرت عليه بعد ثورة الرابع عشر من تموز، ويظهر ذلك واضحاً من خلال تبنيها مواقف سياسية على الصعيدين الوطني والعربي، في تأييد ودعم قيام الحكومة الجزائرية 19 أيلول 1958 في رسالة وقعتها أكثر من 20 ألف امرأة والتضامن والتأييد المطلق للقضية الفلسطينية.

أي أن نزيهة أسهمت في تغيير مسار الحركة النسوية في العراق، ليكون للمرأة دورها الوطني إلى جانب الرجل.

مساهمتها في حركة أنصار السلم العالمية

ساهمت في حركة أنصار السلم العالمية تموز 1950، وكانت عضواً في اللجنة التحضرية التي كانت يرأسها محمد مهدي الجواهري، وقد أدت اللجنة التحضيرية دوراً في توحيد القوى الوطنية بجبهة أطلق عليها (الجبهة الوطنية الموحدة).

قانون الأحوال الشخصية

قامت رابطة الدفاع عن حقوق المرأة العراقية برئاسة نزيهة الدليمي بتقديم مشروع لقانون الأحوال الشخصية في شباط عام 1959 إلى عبد الكريم قاسم فتمت الموافقة عليه وتألفت لجنة من وزارة العدل ومن المؤسسات الأخرى، وجرى وضع لائحة للأحوال الشخصية. وقد تميز قانون الأحوال الشخصية الذي اقترحته رابطة الدفاع عن حقوق المرأة العراقية بأنه أول قانون تقدمي ليس في العراق فحسب، بل في المنطقة العربية كلها. وخطوة جريئة على طريق تطوير وضع المرأة، اشتمل القانون على أهم أبواب الفقه في الأحكام المتعلقة بالأحوال الشخصية الجامعة لمسائل الزواج والطلاق والنسب والحضانة والوصية والميراث، فضلاً عن تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية في الحقوق الرسمية، ورفض الطائفية والمذاهب والتمييز الذي كان يتسم به المذهب الرسمي العثماني.

أثار هذا القانون عاصفة من ردود الفعل والمواقف المتشددة من قبل رجال الدين وهوجم مقر الرابطة في مختلف ألوية العراق ومدنه.

****

يحمل الكتاب استحقاق معرفي في سيرة قوى اليسار وبحث موضوعي في ظروف تبعثر المصادر على قلتها والغياب العادي للكثير من شخصياتها.

الدراسة تكمن في كشفها للبعد الإنساني والجمالي لنزيهة الدليمي ولمبدئيتها ونضالها الدؤوب، ليس في الدفاع عن حقوق المرأة العراقية وحسب، بل في مساهمتها الواعية والدائمة في النضال من أجل تحقيق مصالح فئات اجتماعية واسعة من المجتمع العراقي تقف المرأة في مركزها وتتمحور في ذاتها خلال ستة عقود من الزمن. الكتاب غني بمادته وبقوة المثل، وأعتقد أنه سيكون مرجعاً علمياً وسياسياً بامتياز في ظروفنا الراهنة.

اقرأ أيضا