عراقية أوجعتها "الكوليرا".. فتغيّر وجه شعر العرب للأبد!


نازك الملائكة

" مجلة جنى " عرفت نازك الملائكة كرائدة من رواد الشعر العربي الحديث مع بدر شاكر السياب وآخرين، برغم كل شيء، فإن اسمها سوف يبقى محفوراً في سجلات الإبداع، ربما بسبب قصيدة الكوليرا التي كتبتها وتمردت فيها على تقاليد الشعر.

وافق يوم 23 آب/أغسطس الذكرى الـ 94 على مولدها في بغداد في عام 1923، وقد رحلت عن عالمنا بالقاهرة في 20 حزيران/يونيو 2007 عن 83 عاماً بعد معاناة مع المرض.

سيرة مبكرة

كانت نازك صادق الملائكة ذات حظ ثقافي بأن تنشأ في أسرة متعلمة ومثقفة، وبالتالي تنال تعليماً مميزاً في فترة مبكرة، فقد تخرجت من دار المعلمين العالية، كما درست الموسيقى بمعهد الفنون الجميلة في الأربعينات من القرن العشرين، وتابعت بأن حصلت على الماجستير في الأدب المقارن في عام 1959 من جامعة ويسكونسن ماديسون الأميركية.

وقد عملت أستاذة بجامعات بغداد والبصرة والكويت، ومنذ عام 1990 عاشت بالقاهرة فيما يشبه العزلة الاختيارية، وخفت الضجيج الذي كان حولها وكأنما قد نسيت، برغم ما قدمته من إسهام للثقافة العربية كوجه نسوي ورائدة شعرية.

جذور الشعرية

بغض النظر عمن هو الأول الذي كتب الشعر الحر، وهو كسر لـ"أقدس" قواعد الشعر العربي، أي العروض، إلا أن نازك الملائكة كانت لها مبادرتها الواضحة في هذا الإطار منذ عام 1947، وتعتبر قصيدتها الكوليرا من القصائد الطليعية التي نسجت على منوال الشعر الحر، مسجلة مع السياب وعبدالوهاب البياتي وآخرين النسق الأول لبناء الشعرية الجديدة في العالم العربي.
ونشأت علاقة نازك الملائكة مع الشعر مبكرة من خلال والدتها "أم نزار الملائكة" التي نشرت مقالات بالصحف باسمها المستعار، أما اسمها الحقيقي فهو سلمى عبد الرزاق.

تلك الأم كانت هي التي حببت الشعر لابنتها، وكان لها أثر عميق في بنائها النفسي والشاعري ومنها تعلمت العروض وموسيقى الشعر الكلاسيكية.

ومن جهة ثانية فإن والدها كان مثقفاً ومؤلفاً ترك العديد من المؤلفات، يشار منها لموسوعة "دائرة معارف الناس" التي جاءت في عشرين مجلداً.

وقد اختار لها والدها اسم نازك تيمناً بالثائرة السورية نازك العابد التي قادت الثوار في مواجهة جيش الاحتلال الفرنسي في العام نفسه الذي ولدت فيه الشاعرة 1923.

تزوجت نازك الملائكة من الدكتور عبد الهادي محبوبة، المتوفي سنة 2005 ولها منه ابن واحد اسمه البراق.

إنتاجها الأدبي

كان ديوان "عاشقة الليل" أول عمل ينشر لها في عام 1947 مدشناً فترة جديدة في تجربة إنسانية شعرية، ومدرسة وليدة في الشعرية العربية.

ومن ثم أصدرت العديد من الأعمال منها "شظايا الرماد" في 1949، وغيرها إلى "الصلاة والثورة" في 1978.

كما لها مؤلفات في النقد الأدبي منها كتاب "قضايا الشعر الحديث" الذي صدر عام 1962، و"سايكولوجية الشعر" وقد صدر في عام 1992 وبالتالي زاوجت بين الشعر والنقد، من خلال بعدها الأكاديمي في النقد وروحها الأدبية أساسا.
ولها مجموعة قصصية يتيمة، باسم "الشمس التي وراء القمة" صدرت في عام 1997، ويقع الكتاب في 203 صفحات ويضم سبع قصص هي: ياسمين، وظفائر السمراء عالية، ومنحدر التل، وإلى حيث النخيل والموسيقى، ورحلة في الأبعاد، والشمس التي وراء القمة، وقناديل لمندلي المقتولة. وقد قدم وعلق عليها كل من ولدها البراق عبد الهادي وزوجها ابو البراق عبد الهادي محبوبة.

الكوليرا والبدايات

وهذه قصيدة الكوليرا التي كتبتها في عام 1947 بعد نشر ديوانها الأول، على صدى أنباء الكوليرا في مصر، وكان يسمى هذا الداء بـ"الهيضة"، وكتبتها أولا بالشكل التقليدي ثم لم تقتنع بها فطورتها إلى الشكل الحديث، الحر:

سكَن الليلُ
أصغِ إلى وَقْع صَدَى الأنَّاتْ
في عُمْق الظلمةِ تحتَ الصمتِ على الأمواتْ
صَرخَاتٌ تعلو تضطربُ
حزنٌ يتدفقُ يلتهبُ
يتعثَّر فيه صَدى الآهاتْ
***
في كل فؤادٍ غليانُ
في الكوخِ الساكنِ أحزانُ
في كل مكانٍ روحٌ تصرخُ في الظُلُماتْ
في كلِّ مكانٍ يبكي صوتْ
هذا ما قد مَزّقَهُ الموتْ
الموتُ الموتُ الموتْ
يا حُزْنَ النيلِ الصارخِ مما فعلَ الموتْ
***
طَلَع الفجرُ
أصغِ إلى وَقْع خُطَى الماشينْ
في صمتِ الفجْر أصِخْ انظُرْ ركبَ الباكين
عشرةُ أمواتٍ عشرونا
لا تُحْصِ أصِخْ للباكينا
اسمعْ صوتَ الطِّفْل المسكين
مَوْتَى مَوْتَى ضاعَ العددُ
مَوْتَى موتَى لم يَبْقَ غَدُ
في كلِّ مكانٍ جَسَدٌ يندُبُه محزونْ
لا لحظَةَ إخلادٍ لا صَمْتْ
هذا ما فعلتْ كفُّ الموتْ
الموتُ الموتُ الموتْ
***
تشكو البشريّةُ تشكو ما يرتكبُ الموتْ
الكوليرا
في كَهْفِ الرُّعْب مع الأشلاءْ
في صمْت الأبدِ القاسي حيثُ الموتُ دواءْ
استيقظَ داءُ الكوليرا
حقْدًا يتدفّقُ موْتورا
هبطَ الوادي المرِحَ الوُضّاءْ
يصرخُ مضطربًا مجنونا
لا يسمَعُ صوتَ الباكينا
في كلِّ مكانٍ خلَّفَ مخلبُهُ أصداءْ
في كوخ الفلاّحة في البيتْ
لا شيءَ سوى صرَخات الموتْ
الموتُ الموتُ الموتْ
***
في شخص الكوليرا القاسي ينتقمُ الموتْ
الصمتُ مريرْ
لا شيءَ سوى رجْعِ التكبيرْ
حتّى حَفّارُ القبر ثَوَى لم يبقَ نَصِيرْ
الجامعُ ماتَ مؤذّنُهُ
الميّتُ من سيؤبّنُهُ
لم يبقَ سوى نوْحٍ وزفيرْ
الطفلُ بلا أمٍّ وأبِ
يبكي من قلبٍ ملتهِبِ
وغدًا لا شكَّ سيلقفُهُ الداءُ الشرّيرْ
يا شبَحَ الهيْضة ما أبقيتْ
لا شيءَ سوى أحزانِ الموتْ
الموتُ، الموتُ، الموتْ
يا مصرُ شعوري مزَّقَهُ ما فعلَ الموتْ