في ذكرى مولد جامع الفنون وبحر العلوم.. ابن حزم الأندلسي.. الوزير الصالح..نصير المرأة


رسم تخيلي لوجه ابن حزم

مجلة جنى – "لا آفة على العلوم وأهلها أضرُّ من الدخلاء فيها، وهم من غير أهلها، فإنهم يجهلون، ويظنون أنهم يعلمون، ويُفسِدُون، ويُقدِّرُون أنهم يُصلِحُون!!". إنه العالم الكبير، جامع الفنون، وبحر العلوم، إمام المذهب الظاهري ومُجدِّدُه، هو الفقيه الحافظ، والأديب الناقد، والمؤرِّخُ الثاقب، والوزير الصالح، هو الإمام أبو محمد، على بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي، الشهير بابن حزم الظاهري.

ولد ابن حزم فى 30 رمضان من عام 384 هـ، الموافق لـ 7 نوفمبر من عام 994م، بمدينة الزهراء إحدى ضواحي قرطبة، عاصمة الأندلس، في بيتٍ من بيوت العز والثراء والوزارة والسيادة، فوالده أحمد بن حزم كان أحد وزراء المنصور بن أبى عامر حاكم الأندلس وقتها، فنشأ ابن حزم في رغدٍ ورفاهية من العيش، لبس الحرير، وتسوَّر الذهب، وطالع أمهات الكتب على قناديل الذهب والفضة المضاءة بشموع العنبر والمسك، وكان شغل والده الشاغل إعداد ابنه ليسلك درب الوزارة والرياسة مثله، وكان ابن حزم قد رُزِقَ ذكاءً مفرطًا، فعكف على دراسة الآداب والأشعار والأخبار، وعلوم المنطق والفلسفة، وهو ما أثَّر عليه فى مستقبله.

فبدأ ابن حزم مشواره العلمي بحفظ القرآن الكريم، ثم رواية الحديث، وعلم اللسان، فبلغ في كل ذلك المرتبة العالية، ثم اتَّجه بعد ذلك إلى الفقه، فدرسه على مذهب الإمام مالك؛ فهو مذهب أهل الأندلس في هذا الوقت، ومع دراسته للمذهب المالكي تطلَّع إلى أن يكون حُرًّا؛ ليتخير من المذاهب الفقهية ما يشاء ولا يتقيّد بمذهبٍ بعينه؛ ولذلك انتقل من المذهب المالكي إلى المذهب الشافعي، فأعجب به وتمسُّك به، ولكنه لم يلبث إلا قليلًا في الالتزام بالمذهب الشافعي؛ وكان سبب تركه له بعد أن وجد أنّ الأدلة التي ساقها الشافعي لبطلان الاستحسان تصلح لإبطال القياس، وكل وجوه الرأي أيضًا، ثم بدأ يفكِّر في أن يكون له مذهب خاص وطريق ومنهج مستقل، فاتَّجه إلى الأخذ بالظاهر، وتشدَّد في ذلك حتى أنه كان أشدَّ من إمام المذهب الأول داود الأصفهاني، فكان ابن حزم يأخذ بظاهر الكتاب والسُّنة النبوية المشرَّفة. 

ويقوم المذهب الظاهري على أساس أن المصدر الفقهي هو ظواهر النصوص من القرآن الكريم والسُّنة النبوية المشرَّفة، فلا رأى ولا إعمال للعقل في حكم من أحكام الشرع، فليس في هذا المذهب قياس، ولا استحسان، ولا ذرائع، ولا مصالح مرسلة، وإن لم يكن من نصٍّ، فيؤخذ بحكم الاستصحاب الذى هو الإباحة الأصلية، ولا شك أن بعض المذاهب الفقهية فيها ظاهرية أكثر من بعضها الآخر، فأشدها اعتناءً بالرأي مذاهب الكوفة كـ"أبو حنيفة، والثوري"، ومذهب "مالك" وشيخه "ربيعة" الرأي، وكثير من أهل الحديث عنده ظاهرية، لكن ليس فيهم من هو ظاهري خالص، وهناك مذاهب تمزج بين الأمرين مثل مذاهب "الشافعي، والليث، والأوزاعي" وغيرهم.

ابن حزم نصير المرأة 

لقد لعبت كتابات ابن حزم دورًا كبيرًا في تحسين مكانة المرأة فى الأندلس، ومن كتاباته التي انتصر فيها للمرأة كتاب: "طوق الحمامة"، فالحق أن ابن حزم قد كرّم المرأة تكريمًا بالغًا، وذلك حينما ارتفع بقدرها ومكانتها عن مستوى الشهوة والنظرة الدُّونيَّة، فأكّد دومًا على احترام المرأة وأشار إليها خلال سائر تراثه بصورٍ مختلفة فهي المُعلِّمة والمتعلمة، والشاعرة والمثقفة، كما أشار إلى خِلالِها العالية الفاضلة بعيدًا عن أنوثتها وجمالها، فنجد ابن حزم يساوى المرأة بالرجل مساواة تامة في الحقوق الإنسانية والواجبات، وقد فسَّر قوله تعالى: "الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ" النساء: 34، بأنها قوامة لا علاقة لها بالحقوق والطبيعة الإنسانية، أو القدرة على تصريف الأمور، ولو كانت قوامة الرجل بهذا المعنى للزم أن يكون كل رجل أفضل من كل امرأة، وهذا فى نظره لا يصح في لغة العقل.

وقد ناقش ابن حزم آراء الفقهاء الذين لم يعطوا المرأة حقَّها، قائلًا: "وجائز أن تلى المرأة الحُكم، وهو قول أبى حنيفة، وقد روى عن عمر أنه ولى "الشِّفَاءَ" امرأة من قومه محتسبة في السوق، فإن قيل: قد قال رسول الله: "لن يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة"، قلنا: إنما قال ذلك رسول الله في الأمر العام الذى هو الخلافة، برهان ذلك قوله: "المرأة راعية على مال زوجها، وهى المسئولة عن رعيتها"، وقد أجاز المالكية أن تكون وصيّة ووكيلة، ولم يأتِ نص فىمنعها أن تلى بعض الأمور"، فنراه قد أجاز أن تتولى المرأة وظيفة القضاء، ولها ما لها من القدر والجلال، وقد منعها أكثر الفقهاء من ذلك؛ وقال الحسن بن على الزمزمي: "ما من مسألة اختلف فيها الفقهاء بين مُشدِّدٍ على المرأة ومُيسِّر، فإن ابن حزم يسلك سبيل التيسير، وعنده أن المرأة في الأحكام كالرجل، إلا ما خصَّه الدليل، وانظر إلى كثير من الفقهاء، خاصةً المتأخرين منهم، فإنه يلمح من كلامهم استنقاص المرأة والتحجير عليها، مرَّة بحجة قصورها، وأخرى بحجة سدِّ الذرائع، وهذا ما لم أجده عند ابن حزم، بل الصالحات منهنّ عنده صالحات، والفاسدات بحسب فسادهنّ، مثلهنّ في ذلك مثل الرجال".


تمثال لابن حزم

فلسفة التاريخ عند ابن حزم

ويعدُّ ابن حزم من مؤسِّسي فلسفة التاريخ؛ وهو يسبق ابن خلدون في ذلك المضمار، وإن كان الأخير نال الشهرة الواسعة في التأسيس لفلسفة التاريخ إلا أنه كان تابعًا لابن حزم؛ وذلك يرجع لأسبابٍ عدة، منها: استناد ابن خلدون على ابن حزم ورجوعه له في أكثر من موضعٍ خلال كتابه "العبر"، مرجِّحًا لآراء ابن حزم، كما ناقش ابن خلدون بعض القضايا التي ناقشها ابن حزم سالكًا في تحليلها مسلك ابن حزم في تحليل أرائه واختياراته، ومن أمثلة ذلك عندما تعرض لمسألة جيوش بنى إسرائيل وعدد من يطيق حمل السلاح في عهد موسى -عليه السلام-، ولعل السبب في شهرة ابن خلدون ترجع إلى إفراده فصلًا كاملًا في كتابه "المقدمة" عن نقد التاريخ بعنوان "المقدمة في فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه والإلماع لما يعرض للمؤرخين من المغالط والأوهام وذكر شيء من أسبابها"، وأما ابن حزم فلم تجمع آراؤه دراسة متخصصة أو فصلٍ كاملٍ داخل كتابٍ؛ وإنما كانت مبثوثة في ثنايا كتبه المختلفة، وبالرغم من ذلك كانت آراؤه مؤثِّرة على مؤرخي الأندلس الذين اعتمدوا على ترجيحاته، وأحكامه القاطعة، ورواياته التاريخية الموثوق فيها، مثل: "ابن حيان في كتابيه "المقتبس والمتين"، والحميدي في كتابه "جذوة المقتبس"، وابن بشكوال في كتابه "الصلة"، والضبي في كتابه "بغية الملتمس"، وابن سعيد في كتابه "المغرب"، وابن بسام في "الذخيرة".

ومن المؤكَّد أن ابن حزم قام على توسعة مفهوم التاريخ ليشمل علم النسب؛ والذى عانى تجاهلًا كبيرًا قبله؛ حتى قال عنه البعض: "علم لا ينفع، وجهل لا يضر"، فبيّن ابن حزم خطر هذه المقولة، ووضح أهمية هذا العلم بأنّ الجهل به قد يؤدى إلى النكاح المُحرّم، أو فُقدان الحق في الميراث، وعدم معرفة الشخص المستحق للخلافة، كما قام ابن حزم بتطبيق دعوته عمليًا عندما شرع في تصنيف "جمهرته" ذاكرًا فيها مقدارًا من الأنساب، وقد لقيت هذه الدعوة قبولًا لدى معظم مؤرخي الأندلس الذين اعتمدوا على الجمهرة في تدوين الأنساب الخاصة بموضوعاتهم.


"المحلى" لابن حزم

مصنفاته وكتبه..

لقد ترك ابن حزم ثروةٍ علمية ضخمة، فقد كتب في شتى أنواع العلوم، فترك مؤلفاتٍ بديعة باهرةٍ في الفقه والحديث وأصول الدين، والمذاهب والفرق والتاريخ والأدب والطب، ويأتي على رأس مصنفاته كتاب: "المحلى بالآثار" الذى أشاد به العلماء في كل زمانٍ ومكان، تناول فيه الفقه الظاهري، ومنها: "الإيصال في فهم الخصال"، و"الجامع في صحيح الحديث"، و"الإملاء في قواعد الفقه"، و"الفرائض"، و"الفصل في الملل والنحل"، و"مراتب الإجماع"، و"اختلاف الفقهاء"، و"مختصر في علل الحديث"، و"طوق الحمامة"، و"نقط العروس" وهو من الكتب الرائعة في التاريخ، وقد سبَّب له الكثير من المحن مع ملوك عصره، و"الإحكام في أصول الأحكام"، وهو من كتبه الفريدة، و"الآثار التي ظاهرها التعارض، ونفى التناقض عنها"، وهو من روائع ما كتب ابن حزم، وله مصنفات أخرى كثيرة إن دلَّت فهي تدل على سعة علمه وفقهه.

هكذا وصفه العلماء فقالوا..

لقد أثنى العلماء على ابن حزمٍ الثناء البالغ؛ والسبب في ذلك علمه وفضله، فوصفه الإمام أبو القاسم صاعد بن محمد، فقال: "كان ابن حزم أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام، وأوسعهم معرفةً، مع توسُّعه في علم اللسان، ووفور حظه من البلاغة والشعر، والمعرفة بالسير والأخبار، أخبرني ابنه الفضل أنه اجتمع عنده بخط أبيه أبى محمد من تواليفه أربعمائة مجلد، تشتمل على قريب من ثمانين ألف ورقة"، وقال الإمام الغزَّالي: "وجدت في أسماء الله تعالى كتابًا ألّفه أبو محمد بن حزم الأندلسي يدل على عظم حفظه، وسيلان ذهنه"، وقال أبو مروان بن حيّان: "كان ابن حزم رحمه الله حامل فنونه من حديثٍ وفقهٍ وجدلٍ ونسب، وما يتعلق بأذيال الأدب، مع المشاركة في أنواع التعاليم القديمة من المنطق والفلسفة"، وقال الحافظ الذهبي: "بلغ ابن حزم رتبة الاجتهاد، وشهد له بذلك عدة أئمة، وكان ينهض بعلومٍ جمَّة، ويجيد النقل، ويُحسِن النظم والنثر، وفيه دين وخير، ومقاصده جميلة، ومصنفاته مفيدة، وقد زهد في الرئاسة".

وقال في حقِّه الأمير أبو نصر بن ماكولا: "كان فاضلًا في الفقه، حافظًا في الحديث، مصنِّفًا فيه، وله اختيار في الفقه على طريقة الحديث، روى عن جماعة من الأندلسيين كثيرة، وله شعر ورسائل"، وقال الحافظ الذهبي: "ابن حزمٍ الأوحد البحر، ذو الفنون والمعارف..."، ووصفه الحميدي، فقال: "كان حافظًا، عالمًا بعلوم الحديث وفقهه، مستنبطًا للأحكام من الكتاب والسُّنة، متفننًا في علوم جمَّة، عاملًا بعلمه، زاهدًا في الدنيا بعد الرياسة التي كانت له ولأبيه من قبله من الوزارة وتدبير الممالك، متواضعًا ذا فضائل جمَّة، وتواليفٍ كثيرة في كل ما تحقّق به في العلوم، وجمع من الكتب في علم الحديث والمصنفات والمستندات شيئًا كثيرًا، وسمع سماعًا جمًّا". 


رسم تخيلي لمجالس العلماء

روائع من حِكَمِه..

ولابن حزمٍ حِكَمٌ رائعة في الوعظ والإرشاد نتلمس بعضها طلبًا للهُدَى والرَّشاد، قال الإمام عن مجالس العلم وفرضية تعلّم الخير والعمل به: "فُرِضَ على الناس تعلّم الخير والعمل به، فمن جمع الأمرين فقد استوفى الفضيلتين معًا، ومن علمه ولم يعمل به فقد أحسن فى التعليم، وأساء في ترك العمل به، فخلط عملًا صالحًا وآخر سيئًا، وهو خير من آخر لم يعلمه، ولم يعمل به، وهذا الذى لا خير فيه أمثل حالًا، وأقل ذمًا من آخر ينهى عن تعلّم الخير ويصد عنه، ولو لم ينه عن الشر إلا من ليس فيه منه شيء ولا أمر بالخير إلا من استوعبه لما نهى أحد عن شرٍّ، ولا أمر بخيرٍ بعد النبي صلى الله عليه وسلم"، كما نبّه ابن حزمٍ طالب العلم إلى بعض آداب مجالس العلم، فقال: "إذا حضرت مجلس علمٍ فلا يكن حضورك إلا حضور مستزيد علمٍ وأجر، لا حضور مستغنٍ بما عندك طالبًا عثرة تُشنّعها، أو غريبة تُشيّعها؛ فهذه أفعال الأرذال الذين لا يفلحون في العلم أبدًا"، وقال عن صفة سؤال المُتعلِّم: "أن تسأل عما لا تدرى لا عما تدري، فإن السؤال عما تدريه سخف، وقلة عقلٍ وشغلٍ لكلامك، وقطع لزمانك بما لا فائدة فيه لا لك ولا لغيرك، وربما أدى إلى اكتساب العداوات، وهو يعد: عين الفضول، فيجب عليك أن لا تكون فضوليًّا فإنها صفة سُوء، فإن أجابك الذى سألت بما فيه كفايةً لك فاقطع الكلام، وإن لم يجبك بما فيه كفاية، أو أجابك بما لم تفهم، فقل له: لم أفهم، واستزده فإن لم يزدك بيانًا، وسكت، أو أعاد عليك الكلام الأول، ولا مزيد فأمسك عنه، و إلا حصلت على الشرِّ والعداوة، ولم تحصل على ما تريد من الزيادة".

وذمَّ الكذب وحذَّر منه، فقال: "لا شيء أقبح من الكذب، وما ظنك بعيبٍ يكون الكفر نوعًا من أنواعه، فكلُّ كُفرٍ كذب، فالكذب جنس والكفر نوع تحته، والكذب متولد من الجور والجبن والجهل؛ لأنّ الجبن يُولّد مهانة النفس، والكذاب مهين النفس بعيد عن عزتها المحمودة"، كما حذّر من الإعجاب بالعمل، فقال: "إن أعجبت بعملك فتفكّر فى معاصيك وفى تقصيرك وفى معاشك ووجوهه فوالله لتجدنّ من ذلك ما يغلب على خيرك ويعفى على حسناتك فليطل همك حينئذٍ وأبدل من العجب تنقصًا لنفسك"، كما حذّر من العجب بالعلم، فقال: "إن أعجبت بعلمك فاعلم أنه لا خصلة لك فيه وأنه موهبة من الله مجردة وهبك إياها ربك تعالى؛ فلا تقابلها بما يسخطه، فلعله يُنسيكَ ذلك بعلةٍ يمتحنك بها تولد عليك نسيان ما علمت وحفظت"، كما حذّر من الميل إلى القبائح، فقال: "لا عيب على من مال بطبعه إلى بعض القبائح، ولو أنه أشد العيوب وأعظم الرذائل ما لم يظهره بقولٍ أو فعل، بل يكاد يكون أحمد ممن أعانه طبعه على الفضائل"، ووصف من يستسهل العيوب من الناس فقال فيه: "أشد الناس استسهالًا للعيوب بلسانه هو أشدهم استسهالًا لها بفعله".

ووصف الغيرة فقال فيها: "إذا ارتفعت الغيرة فأيقن بارتفاع المحبة، فالغيرة خلق فاضل متركِّب من النجدة والعدل؛ لأن من عدل كره أن يتعدى إلى حرمة غيره، وإن يتعدى غيره إلى حرمته"، وأرشد إلى أصول الفضائل كلها مخبرًا بتركيبها من أربعة؛ وهي: "العدل، والفهم، والنجدة، والجود، وأصول الرذائل كلها أربعة عنها تتركب كل رذيلة؛ وهي: الجور، والجهل، والجبن، والشح، وهذه أضداد ما ذكرنا"، وحذّر من الاستخفاف بالناس، فقال: "إذا استخففت بالناس بغير حقٍّ استخفوا بك بحق؛ لأنّ الله تعالى يقول: "وجزاء سيئةٍ سيئة مثلها" فتولد على نفسك أن تكون أهلًا للاستخفاف بك على الحقيقة مع مقت الله وطمس ما فيك من فضيلة"، وقال عن مصاهرة الأصدقاء ومبايعتهم بنيّة تأكيد الروابط والصلة: "لا تُصاهِر صديقٍ ولا تبايعه، فما رأينا هذين العملين إلا سببًا للقطيعة، وإن ظن أهل الجهل أن فيهما تأكيدًا للصلة؛ فليس كذلك؛ لأن هذين العقدين داعيان كل واحدٍ إلى طلب حظ نفسه، والمؤثرون على أنفسهم قليل جدًا، فإذا اجتمع طلب كل امرئ حظ نفسه، وقعت المنازعة، ومع وقوعها فساد المروءة"، وذمّ الطمع، فقال: "الطمع أصلٌ لكلِّ ذل، ولكل همٍّ، وهو خلق سوءٍ ذميم، وضده نزاهة النفس، وهذه صفة فاضلة مركبة من النجدة والجود والعدل والفهم؛ لأنه رأى قلة الفائدة في استعمال ضدها فاستعملها، وكانت فيه نجدة أنتجت له عزة نفسه؛ فتنـزَّه، وكانت فيه طبيعة سخاوة نفسٍ فلم يهتم لما فاته، وكانت فيه طبيعة عدلٍ حببت إليه القناعة وقلة الطمع، فنزاهة النفس متركبة من هذه الصفات، والطمع هو ضدها متركب من الصفات المضادة لهذه الصفات الأربع؛ وهي: الجبن والشح والجور والجهل، ولولا الطمع ما ذلّ أحد لأحد".

وفاته..

تُوفِّى الإمام ابن حزمٍ في شعبان من عام 456هـ، الموافق لـ15 أغسطس من عام 1064م، عن إحدى وسبعين سنة، بعد أن أفنى عمره كله في خدمة الإسلام والمسلمين، رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته.