السينما كعلاج: لماذا نحتاج الأفلام في حياتنا؟

"مجلة جنى" تعمل الأفلام - مثلها مثل أي نوع آخر من الفنون -، كنوع من أنواع العلاج "therapy".

تسعى البحوث الفنية والإنسانية أساسًا لفهم الطبيعة البشريّة وسبر أغوارها، ولسنين طويلة كان كلٌّ من الأدب والفنّ إحدى المصادر الأساسية المهمة للتفكير ومحاول الإجابة عن سؤال الإنسان والحياة والأخلاق والأديان.

وقد صنّف الإغريق الفنون إلى ستة أنواع؛ العمارة والموسيقا والرسم و النحت والشعر والرقص. وعلى الرغم من الانتشار الواسع للمسرح في تلك الفترة وما تبعها، إلّا أنه لم يندرج تحت مسمّى الفنون أبدًا، ولعلّ السبب يرجع إلى أنه كان توليفةً من الشعر والرقص والموسيقا. وبعد بدء انتشار الأفلام وظهور "السينما" كشكلٍ جديد من أشكال الحياة نهاية القرن التاسع عشر، أطلق المنظر السينمائي الإيطالي "ريتشيوتو كانودو" اسم "الفن السابع" عليها.

رأى كانودو أنّ السينما تجمع وتضمّ الفنون الستة التي صنّفها اليونانيون القدماء؛ إذ أنها تجمع الكورال السداسيّ المكوّن من تلك الفنون، كما تُعتبر فنًّا متحرّكًا، تجمع ما بين الفنون التشكيلية من جهة والفنون الإيقاعية من جهةٍ أخرى. لكن هل يقتصر دور السينما على أنها شكلًا مهمًّا من أشكال الفن الحديث؟

ندرك بشكلٍ واعٍ أنّ الأفلام لديها القوة المذهلة في تحريك العواطف والمشاعر، فهي تجعل الآلاف بل الملايين من الأفراد يبكون أو يحزنون أو يشعرون بالسعادة أو الخوف أو الضحك أو الحماسة والتشويق، وبالتالي قد ينظر الكثير منا للأفلام على أنها وسيلة للترفيه أو قضاء الوقت أو لإثارة أفكار مثيرة للجدل، أو ربما يعتقدون أنّ الهدف منها ليس سوى جني الأموال من شبابيك التذاكر، وهذا ناتج عن الطريقة التي نصنّف بها الأفلام وفقًا لقصتها، المغامرة، والخيال، والكوارث، والطرق، الخيال العلمي على سبيل المثال، أو وفقًا للعواطف العامة التي تنتجها؛ الكوميديا، الرعب، الرومانسية، التعاطف، وغيرها الكثير، أو وفقًا للجمهور المستهدف منها.

سؤال "ما الذي تحمله الأفلام؟" أو "ما أهمية الأفلام" تشبه تمامًا سؤال "ما أهمية الحياة؟"، هناك ببساطة حاجة للفرد يجب أن تتحقق، الحاجة لتجارب ذات مغزى، وقصص تثري حياته وتزوده بالمعرفة والحكمة وتدله أو تقربه من الأسئلة، وهذا ما تفعله الأفلام.

مشكلة أساسية في تعاملنا مع الأفلام كوننا لا نتساءل بشكلٍ عميقٍ كيف يمكننا الاستفادة منها ونستخدمها في حياتنا لتساعدنا في فهم الآخرين وأنفسنا وعواطفنا وأفكارنا ولحظاتنا الملحميّة ونضالاتنا ومحاولاتنا وتساؤلاتنا وأوقات تخبّطنا وضياعنا وبحثنا عن المعنى والمغزى من الأشياء والأحداث. وبكلماتٍ أخرى أكثر وضوحًا، نجهل في كثير من الأوقات في التعامل مع الأفلام -مثلها مثل أي نوع آخر من الفنون-، كنوع من أنواع العلاج "therapy".

تمامًا كما كان ينظر الإغريق القدماء للمسرح يجب علينا أن ننظر للسينما والأفلام، فهي ليست وسيلة ترفيه وحسب، وليست عاملًا لقضاء الوقت وتضييعه، وإنما هي وسيلة تنتمي جنبًا إلى جنب مع الدين والفلسفة والفكر في الحياة، وسيلة تجعل الفرد أكثر حكمةً ونضجًا وتساعده على النمو والمعرفة. وقد اقترح أرسطو قديمًا أن مشاهدة العروض المسرحية التراجيدية يلعب دورًا مهمًا في خلق هزات داخلية عند الفرد وإرشاده للمعرفة الذاتية، فرؤية بطل المسرحية وهو يخطئ ويعاني نتائج خطئه يمكن لها أن تحفّز الخوف والرثاء عند المشاهدين، وتتركهم مع أسئلة حقيقية عن النفس والضمير والأخلاق والدين والمجتمع وغيرها الكثير الكثير.

إذن فسؤال "ما الذي تحمله الأفلام؟" أو "ما أهمية الأفلام" تشبه تمامًا سؤال "ما أهمية الحياة؟"، هناك ببساطة حاجة للفرد يجب أن تتحقق، الحاجة لتجارب ذات مغزى، وقصص تثري حياته وتزوده بالمعرفة والحكمة وتدله أو تقربه من الأسئلة، وهذا ما تفعله الأفلام.

تحمل الكثير من الأفلام رسالةً واضحة وصريحة مفادها أنّنا لا نختلف كثيرًا عن الآخرين المحيطين بنا في هذا العالم، وأنّ تحدياتنا ومشكلاتنا وصراعاتنا الداخلية والخارجية قد تكون مألوفةً بدرجة أو بأخرى مع تلك التي للآخرين، وبالتالي تسعى لخلق منظورٍ جديدٍ للطريقة التي نتعامل بها مع أنفسنا وننظر بها لمشكلاتنا.

خذ على سبيل المثال تلك المشاهد التي تناولت مشاكل التوهان والبحث عن الذات والمعنى، ألا تجدها مألوفةً جدًّا مقارنة بحياتك؟ أو خذ تلك المشاهد التي تحدثت عن المشاكل بين الزوجين، أو عن مشاكل الحبّ والفراق والعمل والمال والعمل والعائلة والإنجاب والمجتمع والدولة، جميعها بشكلٍ أو بآخر تحاول إخبارك أنّك لست وحدك من تفكر بهذا أو تشعر بذاك، لستَ وحدك من يعيش وحيدًا وليس وحدك من يشعر أنه هشٌّ من الداخل أو يمرّ بلحظات يأس واكتئاب. يخلق هذا شعورًا بالراحة نابعٌ من فكرة أنّ كلّ ما نمرّ به قد يكون طبيعيًّا ضمن مرحلة ما، ولذلك علينا أنْ لا ننظر إليه بجدية مفرطة أو بطريقة صارمة.

يعجز عقل الإنسان عن إدراك الحقيقة الكاملة للأشياء من حوله، كما يعجز عن معالجة المعلومات التي يستقبلها، لكنّ الأفلام من خلال مشهدٍ واحد أو في غضون ساعة واحدة أو ساعتين تعمل عمل العدسة المكبّرة وتركّز على جزئية يعجز هو عن رؤيتها أو إسقاط الضوء عليها. إذن يمكن لفيلمٍ ما أن يقود عقلك لرؤوية الجوانب المخفية والعواقب المجهولة لسلوكٍ ما أو فكرة معينة.

تساعد الأفلام في تشكيل دليلٍ داخليّ ومرجعٍ سلسٍ يمكن لنا اللجوء إليه لفهم أنفسنا، فيمكن لسيناريو جيّد أنْ أنْ يفتح بصيرتك ووعيك أكثر تجاه نفسك، ومشاعرك، وعواطفك، وأفكارك، ومخاوفك، وتساؤلاتك الكبيرة، سواء عن طريق تجسيد دور شخصية حقيقية عاشت أو تعيش في الحياة أو عن طريق شخصية خياليّة. وقد ترى نفسك في دورٍ ما بفيلم معيّن، أو قد تشعر أنّ ما تمرّ به شخصية ما يشبه ما تمرّ به، وبالتالي قد ترسم لك تلك الشخصية خطوطًا خارجية لنفسك، حتى وإن لم تقدّم لك الحلول أو الأجوبة التي تبحث عنها، غيرَ أنها تقدّم لك ولو قليلًا فهمًا أقرب لذاتك الحقيقية بما فيها من مشاعر وعواطف وأفكار ومخاوف وانفعالات.

تظهر لنا السينما الجوانب الأقل وضوحًا من حياتنا اليومية، التي تضيع في جلبة الانشغال وكثافة الأحداث التي لا يستطيع الدماغ الإلمام بها جميعًا، فيركّز على جزءٍ منها ويتغاضى عن آخر. وبذلك نكون قادرين أكثر على تقدير ما لدينا، والرضا بما يحدث معنا ولنا، ومحاولة الانخراط أو التصالح مع الأحداث والأشياء التي أهملناها لوقتٍ طويل.

نحن بحاجة لتصوير أو تمثيل دقيق لمراحل نموّنا المختلفة، ينقل لنا كيف يمكن للمرء أن يكبر ويتغيّر ويمر بتجارب مختلفة وتحديات كبيرة ينجح في بعضها ويفشل في أخرى، وكيف نتعامل مع مجريات الحياة ومشكلاتها بحلها أو الهروب منها أو التقوقع فيها. فقد ترى العاشق الذي لا يعرف كيف يحلّ معضلة حبه، أو الباحث عن المعنى خلال سعيه واستكشافه، أو الأب الذي اكتشف فجأة خطأه بالتعامل مع أسرته وأبنائه، أو الفتاة التي تعبت من القيود العائلية أو الأسرية.

كما تعطينا الأفلام نماذج يُحتذى بها في الأخلاق والاجتماعيات والأديان والإنسانية والعلاقات والجوانب الشخصية البحتة، من خلال طرح الأمثلة أو رمي الأسئلة التي تنشّط العقل والضمير وتخلق له مهمة التفكير والبحث عن الإجابات لفهمٍ أشمل وأكثر عمقًا للذات والنفس والآخرين والحياة.

تركّز السينما على فكرة رئيسية مهمّة، إنسانيّتنا المشتركة. تساعدنا الأفلام التي تحكي حكايا الشعوب والثقافات والدول الأخرى، على تذكّر أننا ننتمي لمجموعة أكبر وأشمل من المجموعات الصغرى التي ننتمي إليها، ونكوّن هويّاتنا بالنسبة إليها ولموقعنا فيها، كما تُخبرنا عن الحيوات المختلفة التي يحياها البشر على الكرة الأرضية، واختلاف الإنسان وتجاربه وصعوباته.

وبالمحصلة، قد يكون كلُّ فيلم تجربة شخصية بحتة، فما تخرج منه من خلاله ليس من الضروري أن يخرج به غيرك، وكيف ترى نفسك من خلاله لا يعني أنّ غيرك يرى نفسه بالطريقة ذاتها، إلا أنّ هناك خطوطًا عامة لا يمكن إنكارها تتمحور حول أنّ الأفلام كانت وما تزال وستبقى طريقة جيدة وعميقة يستطيع الإنسان من خلالها فهم نفسه وغيره من البشر والحياة بشكلٍ عام، ولو قليلًا على أقلّ تقدير.