غرفة مهجورة تشعّ ثقافة وعلماً في مدينة قلقيلية

"مجلة جنى" محاولاً تثبيتها بالحائط مستعيناً بمسمارين قوييَّن من الفولاذ، أمسك خالد بيديه لافتة بلاستيكية خط عليها اسم مكتبته الجديدة “أهداف” وأسدلها من فوق البوابة الرئيسية مطلقاً شارة البدء نحو حلمه بخلق مجتمع مثقف وقارئ.

إلى يمين الشارع الرئيسي وفي أحد الأزقة القديمة وسط “قرية سنيريا” بقضاء مدينة قلقيلية شمال الضفة الغربية، انصب جهد الشاب خالد بري وصديقه أيوب الشيخ على وضع آخر لمساتهما على غرفة من مبنى قديم حوّلاها لمكتبة عامة. شدّ الشابان اللافتة جيداً منعا لسقوطها بفعل الرياح، حدث ذلك آنفا، وعادا أدراجهما لترتيب ما جمعاه من كتب فوق رفوفها “ليسهل الاستدلال عليها”.

في “أهداف” تلتقي جماليات كثيرة إضافة للكتب تجعل الفتى عبد الرحيم غسان (12 عاما) نهما للمطالعة، فخلال أقل من شهر -هو تاريخ إنشاء المكتبة- استعار الطفل عدداً لا بأس به من القصص مثل “الكمين” و”علي بابا والأربعون لصاً”، مستغلاً عطلة الدراسة الشتوية.

ويقول غسان إنه لا يقرأ فحسب، بل يقص ما قرأ على رفاقه بالمكتبة أو خارجها، أدركنا حقيقة ذلك بعد أن لخّص لنا في دقيقة أو اثنتين إحدى قصصه.

شغف الطفل ببعض الروايات حملت عناوين جاذبة إضافة للقصص، يعكف على استعارة واحدة منها، وذلك لا يتعارض وواجباته المدرسية لا سيما إذا ما نظّم وقته، ويقول إن المكتبة ستشق ظلمة الفراغ الذي يعيشونه في القرية وستوفر احتياجاتهم من المطالعة وإعداد الأبحاث أيضاً.

“جو للقراءة”

بوازع شخصي، أنشأ الشابان الجامعيان بري والشيخ المكتبة، مستفيدان من برنامج طوعي تقدمه مؤسسة “أهداف” الدولية التي تعزز مفهوم التطوع بشكل أو بآخر عبر فكرة “نافعة” للمجتمع.

تبادل الصديقان أطراف الحديث وتداولا أفكاراً كثيرة لخدمة مجتمعهم الريفي إلى أن استقر بهما الرأي على مكتبة تلبي طموحهما وتسعفهما والآخرين في ظل “اضمحلال” القراءة وتراجعها كثيراً لاسيما لدى الجيل الشاب الذي “اختطفته” التكنولوجيا وصار “حبيسها” بشتى تناقضاتها.

لم يطل كثيراً زمن إيجاد المكان وتهيئته وفق المطلوب، صورة للكاتب الفلسطيني “غسان كنفاني” وأخرى للروائي الروسي ديستوفسكي علقتا بباب المكتبة، لفت ذلك أعين المارة وقد علت دهشة محياهم مما حلّ بالغرفة المهجورة، توقف الصبية وهم يرقبون ما يدور باستغراب.

في الداخل أيضاً ظهر كل شيء منسقاً تماماً، بدا ذاك التعب الذي بذله الشابان في تجهيز المكتبة بائنا، رُصت الرفوف الخشبية لتحمل كتبا متنوعة بين الثقافة والعلوم والدين، في الناحية اليمنى استحل زخم السياسة والقانون الواجهة برمتها، لكنه لم يحل دون تخصيص زاوية للأطفال تعرض قديم القصص وحديثها.

في الجهة المقابلة أعدت الرفوف بطريقة هندسية لتشير للرقم 1821 وهو سنة ميلاد ديستوفسكي، أما الجدران التي طُليت بالأزرق فقد علتها صور له ولكتاب وشعراء فلسطينيين وعالميين، مثل فدوى طوقان وشكسبير وغيرهما، فقد أخرج الشابان حلمهما (المكتبة) جيداً.

لم ينضب معين الإبداع لديهما، فأوقدا قنديلاً قديماً يعمل بالكاز بصحن نحاسي حوى قواطع (فواصل) وعباراتها الأخاذة من قبيل “خير جليس” و”اقرأ وفكر”، ويتدلى بحبل من الأعلى لينير طاولة مستديرة تموضعت بوسط المكتبة للجلوس والقراءة في جو يملؤه “السكون والهدوء”، بينما تناثرت في الزوايا جذوع زيتون رومانية قديمة وقطع أثرية أحيت المكان وأضفت عليه رونقاً.

ألقي على كاهل الصديقين جهد إضافي، لا يتوقف عند ترتيب الكتب وتجليدها وإعارتها كما هو هدف المكتبة، بل أرادوا مناقشة ما يُعار منها عبر “حلقات خاصة” لعصف الأفكار بين القرَّاء.

يقول خالد إنهما يريدان “إثراء” المكتبة لا بجديد الكتب والروايات وغيرها، بل بجعل المكان “مركزا ثقافيا” يقصده الكتاب والقرَّاء والباحثون، ويكون مأوى تجسد فيه قصص التراث الفلسطيني بكل تجلياتها فنيا وثقافيا عبر أمسيات خاصة.

الصديق الوفي
كدنا لا نصدق ونحن نجوب المكتبة أن ما احتوته أُعدَّ ونُفِّذ خلال أقل من شهر، وأن ما يقرب من 900 كتاب “بين قديم وجديد” جمعت في زمن قياسي، وكذلك الأثاث على بساطته، إذ وصل الشابان الليل بالنهار لجمع التبرعات العينية والمادية من القرية وخارجها، ونالا بعض الدعم من ناشطين ومثقفين، وهو ما شد من أزرهما وجعلهما يتجاهلان انتقادات كثيرة واجهتهم.

يريد أيوب لفكرتهما أن تنهض بسرعة، لذلك حرص هو وصديقه خالد على الحضور اليومي في المكتبة، وهما يقضيان ساعات عدة بعد عودتهما من الجامعة تكفي للمطالعة اليومية والتخطيط لتطوير المكتبة وتوسيعها في “المكان والمحتوى”.

ربما يكون للتطور التكنولوجي دور مهم مستقبلا كما يقول أيوب، ولكن بما يخدم “غذاء الروح” (القراءة) ويجعلها أساسا في المكتبة، التي يأملان في تحويلها إلى “قصر ثقافة” تكون نواته بلدتهما الصغيرة سنيريا (نسبة للجد الأول الشيخ سنير) أي “النور أو الضوء”، وفق الرواية التي يتناقلها الأهالي.

يُحيي جذوة الأمل في نفس الشابين ذاك التبني للفكرة الذي أطلقه مدير وزارة الثقافة بمدينة قلقيلية أنور ريان الذي تبرع بخمسين كتاباً للمكتبة، فالكتاب “صديق المعرفة” يقول ريان الذي يرى أن نجاح المكتبة يكمن في مثابرة القائمين عليها رغم إدراكهما مدى التحديات أمامهما.

ويضيف أن الكتاب يظل “الصديق الوفي” الذي لا يخون ولا يصدر منه الأذى ويعطي دون مقابل، ويبقى متسيداً وسائل المعرفة الأخرى.

كان صعباً أن نعود خاليي الوفاض، دونما رشفة مما يُبقي قلوبنا حية، فاستعرنا ثلاث روايات، واحدة منها “طريق الجنوب” للفلسطيني عثمان أبو غربية وكان طريقنا جنوباً فعلاً لدى العودة أدراجنا.