“مجرد توضيح”.. فلسطينيات يقاومن بفن الأركت

"مجلة جنى" امرأة صامتة الروح منقسمة الجسد من أعلى الرأس إلى أخمص القدم، تتحرك ببطء فتجلس على الأرض لتتكلم مع نفسها عن الحرية والتفاؤل والحب والسلام، فيظهر نصفها ناطقا والآخر صامتا، ثم تنتفض في وجه واقعها وتنطلق بوجهها البسام، مرتدية كوفية ومحولة قيودها إلى عقد تزين به رقبتها.

حكاية امرأة تحدت قيود الواقع وانتقلت من الصمت إلى الكلام فالانطلاق، تُختصر في ثلاث لوحات جمعت بلوحة واحدة في قالب فني وعبر مكونات لونية وخشبية، عرضت في معرض “مجرد توضيح” لفن الأركت (فن يستخدم الخشب) المنعقد بالمعهد الثقافي الفرنسي بغزة.

وبصور الجمال ذاتها والإبداع المتجاوز لحدود الحرفة إلى الفن، برزت مكونات المعرض بين الأشكال الخشبية المربعة والمستطيلة المرتبطة ببعضها بزوايا قائمة ومستديرة، وبين اللونين الأبيض والبني بدرجاته، بهدف تجسيد معاني اللوحات بسهولة ويسر ومن دون الحاجة إلى توضيح كما هو اسم المعرض.

وتجسد لوحة المرأة معصوبة الجبين غاضبة الوجه جزءاً من ملامح المرابطة المقدسية وهي تقف بجسدها سدا منيعا بين جنود احتلال مدججين بالسلاح وبين المسجد الأقصى، وحلقت بروحها نحوه كطيور تحوم حول فلذات أكبادها لتحميهم من عدو يتربص بها.

تطلع للحرية
ولأنها حكاية المرابطات مع أولى القبلتين، فقد كان التعبير عنها بلوحة رئيسية منفردة بخلاف بقية قصص المرأة المواجهة للصعوبات والمعبر عنها بلوحتين أو ثلاث تجمع في إطار واحد، لتتوج الحكاية بأن “الوجود مقاومة” وفق صاحبة اللوحة الفنانة ميساء أبو عرمانة.

وبينما أبرزت الفنانة ميساء قوة شكيمة المرأة المقدسية بأن مجرد بقائها صامدة بعاصمة فلسطين يشكل مقاومة بوجه الاحتلال، لم تغفل طرح بدائل أمام النساء المتطلعات للحرية عبر ثلاث مجموعات خشبية أخرى تضم كل واحدة منها ثلاث لوحات تدور في فلك “حرر ذاتك واصنع عالمك الخاص”.

وهي كلمات توحي بالمقاومة على صعيد الذات والمجتمع والوطن للمرأة والرجل وكل فئات المجتمع، وتتشابه مع عبارات أخرى نحتت بالخشب باللغتين العربية والإنجليزية مثل “لا أحد يستطيع تدمير أحلامك، قاتل من أجل ما تريد، لا تتنازل أو تستسلم، الحياة جميلة”.

وعلى أوتار الخروج من شرنقة الانكسار والولوج إلى حالة الانتصار، عزفت الفنانات الثلاث سيمفونية إبداعهن، ليعبرن عن قدرة شعبهن على المواجهة متجسدا في المرأة الأكثر نجاحا بالخروج من قمقم القيود إلى فضاء الحرية.

ومثلما أظهرت الفنانة ميساء قدرة على المزج بين الكلمات وبين المجسمات الخشبية، سواء من حيث الألوان أو التصميم، برعت زميلتاها المشاركتان بالمعرض في استخدام الرموز والأشكال الموحية بالتحدي للانتقال من واقع غزة القاتم إلى سعة الحياة الرحبة، وإن كان بإبراز المرأة كحاملة للواء صناعة الحياة.

وهذه معاني عبرت عنها لوحات متعددة، ومن بينها لوحة ثلاثية تظهر فيها المرأة وهي تحمل طيور الحرية بين يديها، وتخوض غمار الحياة كسمكة في بحر، بينما تخرج منتصرة وقد حولت آمالها إلى حقيقة بعد نفخها بصدف البحر.

صعوبات وعوائق
وإضافة إلى جماليات فن الأركت البارزة بلوحات المعرض، فقد أدت الإضاءة الخافتة والموسيقى الهادئة وبياض الجدران المثبت عليها اللوحات، دورا في اكتمال التعبير عن مضامين اللوحات عبر إظهار بعض الألوان والخطوط والمنحنيات الخشبية، بحسب الفنانة فرجت أبو سمرة.

ورغم قدرة الفنانة الفلسطينية وزميلاتها على التحليق بلوحاتهن الخشبية لعنان السماء، فإنهن يتعثرن بتحقيق آمالهن بعرض تجاربهن في معارض خارجية لواقع حصار غزة، رغم تحديات حياتية وفنية واجهنها خلال إعدادهن لهذا المعرض وفق مشرفهن الفني إياد الصوالحي.

فمجرد الحديث عن الفنون الجميلة، خاصة فن الأركت محدود الانتشار في واقع غزة، يبدو شيئا غريبا بحسب المشرف الفني، لا سيما أن الناس بحاجة إلى أساسيات الحياة قبل مدّهم بغذاء الروح من الفن والإبداع، وهذا بحد ذاته يعد تحديا وفق تقديره.

وبموازاة تأكيد المشرف الفني أن هذه العوائق وغيرها كنقص المواد الخام وانقطاع الكهرباء لم يكن حائلا أمام الإنجاز، فإنه يثني على مبدعي فن الأركت بغزة، خاصة أن إنتاجهم وصل لرؤساء دول ومسؤولين كبار وغيرهم بنحو ثمانين دولة حول العالم.

ولأن الفنانات نجحن في تحدي صعوبة المادة (الخشب) بليونة الخيوط والتوظيف الأمثل للمكونات، وفق المحاضر بكلية الفنون الجميلة بجامعة الأقصى علي الشيخ أحمد، فإن أعمالهن المنتجة باحترافية عالية قادرة على العرض والمنافسة عالمياً.

ويؤكد المحاضر الفلسطيني أن الفنانات طرحن موضوعهن بمفهوم عالمي وبأشكال غير تقليدية، لمخاطبة المتلقي إبداعيا وفنيا بنفس الوقت، ومنحه إيحاءات بإيقاعات التنوع من خلال الأشكال والمساحات والخطوط وفق وصفه.