تيسير خلف يوثق رحلة مسرحية نادرة “من دمشق إلى شيكاغو”

مجلة جنى - “من دمشق إلى شيكاغو: رحلة أبي خليل القباني إلى أميركا 1893″، هو الكتاب الذي صنعه وقدّم له الكاتب والروائي الفلسطيني تيسير خلف، وحاز جائزة ابن بطوطة لتحقيق المخطوطات في دورة 2017-2018، والصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، والمركز السويدي للنشر والتوزيع في أبو ظبي، في إطار مشروع “ارتياد الآفاق” بإدارة الشاعر السوري نوري الجراح.

ويتميز الكتاب عن غيره من كتب الرحلات، بابتعاده عن كلاسيكية الأسلوب في اللغة والطرح، والمراوحة ما بين الذاتي لصانع سيرة الرحلة، إن جاز التعبير، وما بين تفاصيل الرحلة ذاتها، بحيث يشعر القارئ في العديد من اللوحات السردية، بأنه أمام عمل روائي أو قصص حول رحلة أبي خليل القباني إلى أميركا، وفي ذات الوقت أمام عمل تأريخي لفصل مهم من فصول “المرسح” أي المسرح العربي، في السنوات الأخيرة للعثمانيين في بلادنا، عبر تجربة القباني ما بين سورية ومصر ولبنان وأميركا، والحروب التي رافقتها من رجال دين، وإعلاميين، وساسة.

محمد أحمد السويدي في مقدمة الكتاب أكد أن “الرحلة، كما آلت إليه، سفر في الأرض وسفر في المخيلة، بالتالي فإن نصوصها مغامرة في اللغة والوجود، وأشار إلى أن مشروع ارتياد الآفاق، يسعى للتأكيد أنه “في وسع الثقافة العربية أن تبرهن من خلال هذا اللون الممتع والخطير من الأدب، أنها ثقافة إنسانية فتحت نوافذها على ثقافات العالم وتجارب شعوبه، ودوّن رحالتها مشاهداتهم بوثائق أدبية وتاريخية ترقى إلى ما يربو على ألف من السنين، فأنجزوا مع ريادتهم الآفاق ريادتهم في أدب السفر”.

وإنه لأمر مدهش ولافت وريادي، أن يكون مسرحاً عربياً، أو كما كان بحكم السيطرة التركية على الأرض، مسرحاً تركياً، في شيكاغو، قبل العام 1900، فما نشرته صحيفة “شيكاغو تريبيون” في ذلك الوقت، أنه “تم البدء بالمباشرة بإنشاء المسرح التركي في ميدواي بليزانس، وأن تكلفته ستبلغ ما بين 10 آلاف دولار أميركي و25 ألف دولار، على أن يجهز بألف مقعد على أقل تقدير، وبحيث يكون المسرح وتصميمه صورة عن الشرق، فالواجهة الخارجية تحوي قباباً، وأقواساً، وبوابات ونوافذ على النمط الشرقي”.

فرقة القباني في شيكاغو كانت تتكون من 65 رجلاً وامرأة وطفلاً، وأنها وظفت في شيكاغو ممثلين ومغنيين و”مشخصاتية” من القدس وبيت لحم والناصرة ودمشق وبيروت وحلب والقسطنطينية وأزمير، وغيرها، إلى جانب بعض الغجر من بلاد ما بين النهرين (العراق)، وبعض البدو من الصحراء، حيث تدربوا على أداء العروض الكوميدية والتراجيدية في بيروت، ليتم تقديمها في هذا المسرح، علاوة على توظيف المترجمين، والعناصر البصرية المختلفة التي من شأنها ضمان توفر عنصر الإبهار الذي تميزت فيه المدرسة القبانية في المسرح.

وكان الاهتمام الإعلامي بالعرض كبيراً ولافتاً، فصحيفة “نيويورك تايمز” وثقت لحفل التدشين قبل خمسة شهور من الافتتاح الرسمي، وهو ما ذكره كتاب “من دمشق إلى شيكاغو”، الذي تحدث فيه خلف عن تفاصيل الاستعدادات في بيروت، والرحلة البحرية على متن السفينة “إس إس وايرا”، عبر جنوة إلى نيويورك، وهي التي استغرقت 18 يوماً.

وفصّل خلف موثقاً للمشاركين في هذه الرحلة غير المسبوقة وقتها، كالممثل أحمد قبيب من دمشق، والممثلة إسترا حنائيل حكيم من ذات المدينة، والمطربة وعازفة القانون ملكة سرور من بيروت، وعازفة الإيقاع ماري لزمة من دمشق، وإلياس قطان من بيت لحم وزوجته ماري دحدوح من لبنان، والممثلة جنفياف ضومط السورية المقيمة في الإسكندرية، وغيرهم ممن شاركوا في العرض، الذي ترافق مع افتتاح “القرية التركية”، أو “القرية العثمانية” في شيكاغو، والذي تم وصفه كما القرية في الإعلام الأميركي وبعض كتب التاريخ بشيء من التفصيل كما حاله في كتاب خلف.

واللافت أن العرض الذي قدمته فرقة “مرسح العادات الشرقية” تحدث عما وصف بـ”الدراما الكردية”، مع أن خلف يشير إلى أن لا مبرر منطقياً لإقحام القضية الكردية في تفاصيل العرض الذي يحاكي واقع شعوب المنطقة كلها، إلا ربما “لإرضاء إدارة قسم الأنثروبولوجيا لا أكثر”، وهو العرض الذي اعتبره مراسل صحيفة “نيويورك تريبيون” واحداً من أفضل العروض التي قدمها المسرح التركي.

وتتحدث المسرحية الثانية “العرس الدمشقي” التي لاحظ النقاد الأميركيون تشابهاً في حبكتها الدرامية مع مسرحية “قصة حب البروفيسور” للكاتب المسرحي البريطاني الشهير “جي.آر.إم.باري”، عن شاب “مريض بالحب يدعى سليم، يحاول والده علاجه، فيحضر مشعوذاً يقرر أنه مسحور، فتقام حضرات السحرة والمشعوذين، ويتفق الجميع على أنه عاشق ولا بد له من الزواج من محبوبته، وبعد التأكد من ذلك، يخطبون له الفتاة التي يحب، وتقام حفلة زفاف كبيرة تسبقها تحضيرات للعرس وفق تقاليد جبل القلمون وجبل الدروز”.

وتعددت المسرحيات التي قدمها “العادات الشرقية” بقيادة القباني الذي وصفته الصحافة الأميركية بـ”الرجل الرصين ذو المعطف الطويل”، وبينها “عنترة بن شداد”، و”هارون الرشيد”، و”الابن الضال”، وغيرها، قبل العودة المفاجئة للقباني بعد شهرين في شيكاغو من أصل ست كان مخططاً لها، عقب نشر أنباء عن أن جهاز “الخفية” (المخابرات) في ولاية بيروت وإسطنبول العاصمة، آنذاك، اكتشف ما وصف لاحقاً بـ”افتراء بعض المفسدين”، تورط “مرسح العادات الشرقية” بمؤامرة “تستهدف مكانة السلطنة”، في كتاب يعرض وثائق وصوراً نادرة تعكس المجهود الكبير الذي بذله خلف للخروج بـ”من دمشق إلى شيكاغو”.

وولد أحمد بن محمد بن حسين آقبيق، الشهير بالشيخ أحمد أبي خليل القباني في مدينة دمشق العام 1942، واختلفت الآراء في سيرته، لكنها أجمعت على أنه بدأ التفكير في المسرح بعد أن شاهد مسرحية في مدرسة “العازارية”، فبدأ نشاطه المسرحي على نطاق ضيق بعد أن ألتقى الوالي عبد اللطيف صبحي باشا العام 1872، حيث كلفه بـ”تشكيل فريق مسرحي يرقى بالأفكار المستقيمة”، فأسس خلال العامين 1874 و1875 أول دار للمسرح في دمشق، مع الإشارة إلى أن توثيق رحلته ومسرحه إلى شيكاغو، تشكل توثيقاً مهماً لتجربة من أندر تجارب التفاعل الثقافي المباشر بين منطقتي شرق المتوسط والولايات المتحدة الأميركية.