حرفيّتان ومبادرة She min lebnen... حكاية عطر ومعدن ثمين وامرأة عاملة

"مجلة جنى" ما إن تدخل منزلها المتواضع حتى تنعشك رائحة الصابون الطيبة التي تملا المكان. حرفيةٌ تصنع الصابون بالطرق التقليدية منذ أكثر من خمسة عشر عاماً. مي الداعوق، الخمسينية، تهب جلّ وقتها لحرفة تشكل مصدر رزقها ودخلها الوحيد لإعالة نفسها ووالدها المسن. خصصت غرفة في منزلها لعرض المنتجات، في إحدى زواياها قوالب الصابون البلدي المصنوعة من زيت الزيتون أو الغار الطبيعي، اصناف متعددة استخدمت مي في تحضيرها أعشابا مختلفة، في الزاوية المقابلة ألوان واشكال تجذب الزائر. انه صابون "الغليسرين". تقف امام منتجاتها وتقول "أدللهم كأنهم أبنائي".

هنا صابون لاستعمالات كثيرة، منه ما هو مخصص لنقاء البشرة، والبعض الآخر للاستحمام أو لتغذية الشعر. صابون الزينة موجود أيضاً، والى جانبه نماذج مخصصة لحفلات الزفاف وأخرى لمناسبات كعيد الأم والمعلم.

حوّلت شرفة منزلها الى مشغل، تصنع فيه منتجاتها بإتقان شديد. "عندما تعشقين عملك تبدعين فيه". تقول الداعوق لـ"النهار". نراقب حركتها وهي تحضر قالب صابون بزيت الصنوبر واعشاب اكليل الجبل. بدقة وهدوء تنقل المواد من مكان الى آخر، وكأن بين راحتيها كنزا ثمينا. نسألها لمَ صناعة الصابون؟ فتسترسل في سرد حكاية بدأت منذ سنوات عندما وجدت نفسها مضطرة الى العمل، فخاضت التجربة بداية الأمر في احد المصانع لمدة عام واحد، وسرعان ما حولتها الى مهنة متعتها باكتفاء ذاتي، علماً أنها حائزة إجازة في علوم الحياة والكيمياء. الا ان ظروف الحياة منعتها من العمل.

تكبر الحرفية الصغيرة ويكبر معها مشغلها ويتنوع انتاجها. بدأت خطوط التقدم في السن ترتسم على وججها، إلا أن ذلك لم يحد من عزيمتها وقوتها البدنية، الى جانب قوة شخصية تردها مي الى كون "السيدة القادرة والمنتجة تتمتع باستقرار نفسي وداخلي، وكل سيدة منا بحاجة الى هذا الشعور".

 بشاشة وججها تريح ضيفها، فنسألها عن خلاصة التجربة وأي رسالة توجهها للسيدات. تتوقف لبرهة، وبابتسامة ترتسم على محياها، تقول: "الحاجة المادية ليست الدافع الوحيد للعمل، فعندما اقف في مشغلي المتواضع افرغ الطاقة السلبية من داخلي واحولها طاقة ايجابية اعكسها في منتجاتي، لتكون على احسن صورة وبأعلى جودة، وهذه حاجة اساسية لكل فرد منا وللنساء تحديدا، لإثبات الذات امام انفسهن وامام المجتمع، ونساء لبنان خصوصا برزن في مجالات عديدة، ومنها الحرف، وعليهن الاستمرار والتميز".

طموحها في تطوير الذات والقدرات دفعها الى التسجيل في دورات عدة في مراكز مختلفة تعنى بتعليم الحرف والصناعات الصغيرة، ومنها الصابون، إلا أن مي لم تجد في ذلك منفعة، وتصرّ على ان الفرد هو من يطور نفسه بنفسه من خلال تجاربه: "اردت لمنتجاتي ان تحافظ على لونها وعطرها لاطول مدة زمنية ممكنة، وقمت بتجارب في منزلي لهذه الغاية. وبعد عام من التجارب المتواصلة حصلت على ما اريد واكتشفت الطريقة بنفسي". تقصد مناطق مختلف من لبنان، وتبحث عن العطور العالية الجودة، والألوان غير المضرة لتستخدمها في صناعة قوالب الصابون. حرفية متواضعة أمام تجار كبار في مجال الصناعة وتجارة الصابون، إلا أنها فخورة جداً بأنها استطاعت ابتكار أفكار جديدة تميزت بها. فمن يرغب في الاحتفاظ بتذكار من لبنان ابتكرت له قوالب صابون حفرت عليها اسم بيروت، وأخرى ضمنتها أرزة العلم اللبناني ورموزا تعود الى التراث اللبناني.

نترك مي منهمكة باختبار تجربة جديدة وضعتها ضمن قائمة اهدافها، هي صناعة الصابون السائل الطبيعي، لننتقل الى رجاء عمار، حرفية تصنع الحلي. موهبة تمتعت بها منذ الصغر، وبعد عودتها من المانيا للاستقرار في لبنان قبل نحو عشرين عاماً حولتها الى مهنة لمساعدة زوجها في تكاليف جامعة ابنتها.

عملت بادء الامر لمصلحة سيدة تمتلك محال لعرض كل ما يتعلق بالحرف والتراث اللبناني، وبعد مرور عشرة اعوام قررت رجاء العمل لحسابها الخاص. تشارك في معارض عدة وتعرض منتجاتها على وسائل التواصل الاجتماعي. هي أيضا جعلت منزلها مشغلا صغيراً، في إحدى غرفه حلي بألوان وأشكال تبهرك بدقة تصنيعها، تناسب مختلف الأعمار والأذواق. حرفة تحتاج الى الكثير من الدقة، على قول رجاء، وهذا ما شاهدناه أمامنا أيضاً، بين أصابعها ابرة وخيطان ملونة وبعض الأحجار تحولها رجاء الى حلي جاهزة لتزيين أعناق السيدات.

صحيح أن الحاجة المادية في مرحلة ما كانت الدافع لتمتهن ابنة عكار حرفة صناعة الحلي، إلا أن رجاء تؤكد لـ"النهار" أن "اثبات الذات واعتماد المرأةعلى نفسها أمر لا بد منه"، مستبعدة ان تعتزل صناعة الحلي حتى لو لم تكن بحاجة الى مردود اضافي، لكون التجربة اكسبتها ثقة بالنفس واستقلالا معنويا واقتصاديا يعزز لديها الشعور بالقوة والمقدرة.

 مي ورجاء، مرشحتان لتكونا ضمن فريق مبادرة "She min lebnen". مبادرة تسعى من خلالها مؤسسة "blessing foundation" الى دعم السيدات اقتصادياً في المناطق الريفية وإعطائهن الفرصة لإبراز مهاراتهن وتطويرها، ورفع مستوى انتاجهن الحرفي التراثي بإشراف خمسة مصممين لبنانيين تخطت شهرتهم حدود لبنان. 

مبادرة

لبنان الرائد في مجال التصميم والإبداع أرادت " blessing foundation" نقل حرف نسائه من الأرياف الى العالم، فأطلقت مبادرتها اليوم من السرايا الحكومية برعاية رئيس الوزراء سعد الحريري، لتكون دعوة لنساء لبنان في محافظاته الخمس الى تقديم مهاراتهن اليدوية المختلفة من خلال ارسال صور وفيديو سيتم نشرها على مواقع التواصل الاجتماعي بالتعاون مع منظمات المجتمع المحلي والبلديات في المناطق للتواصل مع النساء في الأرياف.

وأكد الحريري أن "دور المرأة أساسي في المجالات كافة"، مشدداً على "ضرورة الدفع الى الامام في مجال حقوق المرأة لتعزيز وجودها في السياسة والحياة العملية". وتمنى أن تصبح وزارة الدولة لشؤون المرأة وزارة سيادية نظراً الى اهمتيها، مضيفاً: "يسعدني أن تكون الوزارة التي تعنى بالمرأة من حصتنا بدلاً من وزارة المال التي سيتصارع الجميع على توليها عند تشكيل الحكومة الجديدة بعد الانتخابات النيابية".

أول 100 إمرأة موزعة على المحافظات الخمس هي النواة الأساسية لتشكيل مجموعات في كل المناطق يتم تشبيكها مع الهيئات الاقتصادية للمساعدة في التسويق وربطها في ما بينها الكترونياً للاستفادة من التجارب المختلفة. وبحسب رئيسة مؤسسة "blessing foundation" ريما الحسيني فإن "هدف المبادرة الأكبر هو خلق سياسات داعمة لتعزيز مشاركة المرأة الاقتصادية عن طريق تأمين بيئة عمل ملائمة بما فيها حقوق المرأة الإنسانية في فرص متساوية مع الرجل".