"أبواب ومفاتيح " لسوزان دروزة..السرد الروائي بأبسط صُوَره

"أبوابٌ ومفاتيح"* هو عنوان الرواية الأولى لسوزان دروزة، والرواية الأولى للكاتبة، أو الكاتب، يندُر ألا يعتريها بعض الاضْطراب، والقصور، الذي لا يتلافاه الروائيون إلا بعد ممارسة طويلة، وخبرة مكتملة بهذا اللون من الإبداع الأدبي العسير على من لم تكن تجربته فيه راسخةً مخْتمرة. ففي بداية هذه الرواية يجد القارئ ما يمكن أن نعدَّه استهلالا، أو عتبةً، لمرويات سوزان المطردة لاحقًا، فهبَةُ - وهي بطلة في الرواية- بُعيْد أن أتمت دراستها في كلية التربية، وظفرت بالشهادة الجامعية الأولى في تخصُّص (معلِّم صف) أتيح لها - وقد توفِّيَت أمها للأسف- عقدُ عمل في السعودية، ووقعت العَقْد، وهي لذلك على كثب من مغادرة عمان جوًا، وفي زحمة المطار، حيث المغادرون ينتظرون بفارغ الصبر من يدعوهم للتوجه إلى البوابة ذات الرقم كذا...(ص169- 170) تستعيد ما مرَّ بها من حوادث، أي أن اللحظات التي يستغرقها الانتظار في قاعة المغادرين تستذكِرُ فيها ما جرى من أَلِفِ الحكاية إلى الياء.

أحداثٌ مستعادة

فما روي في الصفحات من 17 – 170 يمكن القول: إنه تسلسل لوقائع تجري استعادتُها وفقًا لتعاقبها الطبيعي في تلك اللحظة القصيرة من عمر الزمن. فقد كانت أحداثُ هذه الرواية قد بدأت في زمن افتراض هو العام 1954 أو قبل ذلك بقليل، لأن كاملا- ابن عزيزة - في العام 1975 ينبغي له أن يتقدم لامتحان الثانوية العامة (التوجيهية) وهذا يعني أن عمره لا يقل عن 18 عاما، وأما سميرة شقيقته فقد اجتازت هذا الامتحان بنجاح قبله بثلاث سنوات 1972 تتبعُهما بعد ذلك هبَة، أما هدى فإن اعتقالها، ووضعها الصحّي بسبب التعذيب، حالا دون إتمامها الدراسة.

وهذه الوقائع التي تُروى بالتتابُع تستمرُّ إلى ما يقرب من العام 1980، أو بعده بقليل، ويمكننا أن نتذكرَ، بيُسر، مفاصل هذه الحكاية. ففي البدء تنفصل أم كامل (عزيزة) عن زوجها (أبو وحيد) الذي يكبرها بأعوام كثيرة بعد أن رُزقت منه بثلاثٍ من الإناث، وبمولود واحدٍ ذكر، هو كامل(ص25). وتعثر على عمَل (آذنة) في مدرسة أسماء بنت أبي بكر في نابلس، مع تسهيلاتٍ باستعمال مطبخ المدرسة مقرَّ إقامة لهذه الأمّ، وأبنائها الأربعة. وعلاوة على عملها آذنة في المدرسة تكنس، وتنظف، وتشطف، وتخدم المدرسات، وتقرأ لهن الفنجان، تقوم ببيع بعض الأشياء الرخيصة في الفرص، للتغلب على شظف العيش، والفقر، والحاجة، لا سيما وأنها تعيل أسرةً ليست صغيرة(ص37). 

ومما يلاحظ أن عزيزة هذه – تبدو كغصن مقطوع من شجرة، فلا أحد يزورها، أو يسأل عنها، أو يقدم لها يد المساعدة، والعون. ولم تشر الساردة – هبة- لأي قريبٍ لها ولا صديق إلا إشارةً خجولة لصديقتها (أم محمد الشخشير) في مخيم الحسين بعمّان (ص94) وإلى أم ماجد التي تقيم في الرصيفة وتشير إليها الساردة بكلمة خالتي (ص97). ما بين هذا، والأحداث السياسية التي جرتْ في الخامس من حزيران- يونيو 1967، يجد القارئ فصولا من الصعْب أن تدرج في عِداد المرويات، فهي أقرب إلى التدقيق في وصف معاناة الأم عزيزة، والأبناء، وتصفُ في فصول زائدة ما يعانونه عند الاستحمام باستعمال وسائل بدائية (بابور الكاز نموذجًا) (ص43- 44)، وما يلاقونه من عناء أيّام الجمعة التي كانت ثقيلة على البنات خاصَّة، لقيامهن بأعباء إضافية في مساعدة الأم في تنظيف الصُفوف، يضاف إلى ذلك الوصف الدقيق لما يجري في الحمَّام العُمومي(ص44- 48)، وأخيرا تقفز بنا الكاتبة لسَرْد بعض ما جرى في 5 حزيران 67 في نابلس تحديدًا. 

كامل في السجن

وبمفاجأة لا يتوقعها القارئ تعلم الأسرة بعد انتظار، وقلق، أنّ كاملا ابن العاشرة، في ما نظن، ونحسب، قد وقع في قبضة الاحتلال مع شبان آخرين، ووُجِّهتْ له، ولهم، تهمة مقاومة الاحتلال. (ص61) ويتواصل حديث الساردة عن كامل، وعن اختياره ذات يوم حارسَ مرمى لفريق كرة القدم في المدرسة، ثم تعود للحديث عنه، وهو رهن الاعتقال. وفي هذا الموقفُ تغيِّرُ الكاتبة من استراتيجيتها في السرد، فبدلاً من أن تستمر هبة في رواية الوقائع تعهد لكامل نفسه بمهمة السارد المشارك. وزيادة في إيضاح هذا التعديل على النسق، تضعُ لنا عنوانا جديدًا، وهو :" كامل في المعتقل "(65). وهذا العنوانُ في الواقع من باب الفضول، والتزيُّد؛ لأن القارئ عرف من الصفحات السابقة أن كاملا في المعتقل، بيد أنها تريد أن تقول، بأسلوبٍ لم نعْتَدهُ، ولم نعْهدهُ، في الخطابِ الروائي: إن هذا الفصل يختلفُ عن السابق بصفته تداعياتٍ تنقل لنا ما يمر به كاملٌ من ظروفٍ، بلسانه هو، لا بلسان هبة، لذا تبدأ الفصل بعبارة: " رحلتي في السجن بدأت بعنف ... " (ص 65)  ناهيك عن هذا التعديل القسري في النسق، يمتلئُ الفصل، وهو فصلٌ قصير (من 65- 68) بما هو متكرر في الكتابات الروائية، وغير الروائية، عن أنواع التعذيب التي يتعرض لها المعتقلون في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وقد تكرر هذا في موقع آخر عند الحديث عما تتعرض له هدى(ص88- 93). وبُعيد ذلك تعود بنا الكاتبة إلى أجواء السجون بعنوان آخر، هو " مظاهراتٌ واعتقالاتٌ " وسبب هذه الإضافة أنَّ المعتقل هذه المرة هو هدى، شقيقة كامل وهبة " لم تعد هدى.. صَحْونا على أصوات قرْع شديد على باب المطبخ.. فإذا هم مجموعة شباب فجَّروا الخبر الذي كنا نخشى. هدى في المعتقل . تمَّ زجُّها في إحدى السيارات العسكرية يوم أمس.. " (ص78) هذا على الرغم من أن قول الساردة " صحونا " فيه ما يناقض الواقع، إذ كيف لعائلة قلقة على غياب الفتاة في ظروف كالتي تصفُها الساردة، يمكن لهم أن يغرقوا في النوم، سؤالٌ يوحي بما لا يتسق مع الموقف، ويؤكد اضطرابَ النسق السردي، وتفكُّك الخطاب، فكأنّ الذي يقولُ هذا لا دراية له بالتوتر القائم في المدينة، ولا بحجم القلق، لتأخر الفتاة يومًا وليلة كامليْن عن البيت.

السلّة والفنجان

في ذروة هذه الحوادث تتوجَّه بنا المؤلفة لشخصية أخرى في الأسْرة، وهي شخصية سميرة. ويكتشف القارئ أن سميرة هي الأكبر، وتُضفي عليها الكاتبة ما لا يتوقع من الوظائف. فعلاوة على قوة الشخصية تشغلها قِصَص " أنا كارنينا، وأوليفر توست، وقصة مدينتين، وشعر محمود درويش، وقصص سميرة عزام، وشعر فدوى طوقان، وقصص أغاثا كريستي، والقصص المصورة .. " (ص83) وهذا لا يتناقضُ، في رأي الساردة، مع وَلَع الفتاة المثقفة بما يُعرف بتحضير الأرواح عن طريق السلَّة والفنجان. ومع هذا لا تملُّ التأكيد على شغف سميرة باللغة العربية، والأدب، لا سيما شعر محمود درويش، وسميح القاسم. مع أن هذا لا يستقيمُ والقصصَ المصورة، والقصص البوليسية لأغاثا كريستي. فقد يكون المرء مثقفًا، ومع ذلك، يؤمن بهذا الذي تسميه السلة والفنجان، على أن القارئ يتساءل ألا يتعارض، وفقا لمعايير الفن، أن يكون أحدُ أبطال الرواية مثقفًا، وساذجًا، يؤمن بهذه العفاريت، وتلك الأرواح؟ أو يجمع بين تعلقة بروايات تولستوي، ودكنز، ومن هم في مستواهما، وتتبُّع القِصص المصوَّرة، والبوليسية التي تنسب لأغاثا كريستي؟ 

انقلاب

ودون مُقدِّمات تشهدُ " أبوابٌ ومفاتيح " انقلابًا في الحكاية يتمثل في توَجُّه عدد من أفراد الأسرة – عزيزة وهبة وسميرة- في زيارة لعمّان (94). وفي هذه الزيارة تقع عينا الساردة على مفاتيح كبيرة معلقة على جدران البيوت في مخيم الحسين، فتقول لها سميرة "  هذه مفاتيحُ بيوت فلسطين القديمة، حملها اللاجئون معهم على أمل العودة إليها فأصبحت رمزًا للعودة.. " (ص 95) في هذا الحوار يجد القارئ تفسيرًا لعنوان الرواية، على أن ما يتبع هذه الزيارة من حوادث يمكن اختصارهُ في نجاح سميرة في الثانوية العامة، ومغادرتها إلى دمشق لدراسة اللغة العربية (ص99) وقد جرى ذلك بسرعة غير متوقعة، كأنَّ أحدا يلاحقهم بعَصا. ولم يبق في البيت (المطبخ) إلا عزيزة وهبة، ويتوقع القارئ زيادة الضغوط على هبة بسبب إلقاء العبء عليها وحدها في مساعدة الأم. وفجأةً.. تخبرنا أن كاملا المعتقل يوشك أن يتقدم للثانوية العامة، ولا تدري ما إذا كان سيُسمح له بذلك أم سيُمْنع. وما هي إلا عبارات قليلة حتى تنبّهنا لخبر سار، وهو إشاعة عن إطلاق سراح هدى. وهكذا تتجاوز الساردة موضوع كامل لموضوع هدى، ووزنها الذي يقل عن 40 كيلو غرامًا، ووجهها الذي لا يخلو من كدَماتٍ، وبُقعٍ، أبقاها الاحتلال على وجهها من أثر التعذيب. ولكي ينجح الانقلاب تقرر عزيزة – أم كامل- التي عرفنا في السابق مدى تمسكها بعملها، وبالمدرسة، وبالمعلمات، والجيران، وحتى القطة سليمة – مغادرة نابلس مع هبة وهدى، بلا دوافع مُقنعة مذكورة. فلا يوجد ما يفسر ذلك تفسيرا مقبولا،بدليل أنها ما لبثت أن عادت بدافع الحنين لزيارة الضفة الغربية عامة، ونابلس على الخصوص. وكان يُفترض، بهذه الأم، أن تتشبَّث بالبقاء ما دام ابنها-  كامل - رهينَ السجن.

نهايةٌ وحزن

ومهما يكن من أمر هذه الهفوة، وخطورَةِ هذه الكبْوَة، على مسار الرواية، واتساق الحكاية، فإن من الطبيعي أنْ تظهر على عزيزة أعراض الشيخوخة، والتقدم في السن، ولو أن القارئ يتمنى لو عرف شيئا عن عُمْر عزيزة، فهل بدأت الرواية وهي مثلا على أعتاب الثلاثين؟ أو أقلَّ من ذلك بقليل، فالزعم بأنها صغيرة، زُوِّجت بالإكراه من رجل طاعن مشرف على الهلاك (أبو وحيد)، ثم انفصلت عنه بعد أن أنجبت له أربعة من الأطفال، زعمٌ – في الواقع - لا يمهِّد لهذه الإِشارات لتقدمها في العمر تمهيدًا مقبولا، وشكواها من آلام في القدمين تارة، وفي الركبتين تارة، وفي المعدة تاراتٍ آخر، مع اشتعال الرأس شيبًا، وامتلاء الوجه بالأخاديد، والتجاعيد، شيئ لا يتقبله القارئ وهو على يقين من أنها مازالت في حدود الأربعين. حتى إذا ما لزم الأمر إجراء مزيد من التحاليل الطبية، وتبين أنها مصابة بسرطان المعدة، إزدادتْ سرعة الإيقاع في المجريات، وتخرجت هبة – آخر العنقود – من كلية التربية تخصص معلِّم صف، وأتيح لها عقدُ عمل في السعودية (ص169)، وانتقلت عزيزة بهذه السرعة إلى العالم الآخر. وليس في هذه النهاية ما يستحقُّ أن يقف عنده القارئ. فالسيدة عزيزة كغيرها من كبار السنِّ لا بد وأن تتعرض لما يتعرض له هؤلاء من متاعب ومن مرض، ومن معاناة في المستشفى، ومن وفاة. وهبة كغيرها من الأبناء لا بد أن تشهد تلك النهاية بنفسية جريحة يكتنفها المزيد من الحزن والأسىى. وسميرة لا بد لها من أن تؤول لما تؤول إليه شابة تتزوج حديثا، وتنجبُ طفلة تسميها على اسم الأم عزيزة. وكذلك هدى، التي تتماثل للشفاء من المرض النفسي الكئيب، ويمنُّ الله عليها بمن يتقدم لها خاطبًا، ثم يحدث القبول، فالزواج، على الرغم من أنها تعرضت للإغتصاب في السجن. وأما كامل، فلم تشر الرواية لمصيره ، والأرجح أنه بقي في السجن. بمعنى أن الرواية ذات النهاية المفتوحة تطرح بعض التساؤلات، وأحد هذه الأسئلة يتَّصل بمصيره، وبعضها يتصل بعزوف المؤلفة عن العناية بالشخوص، فباستثناء عزيزة تكاد تكون شخوص الرواية أشباحًا لا نعرف منها إلا الأسماء، وقد حاولت أن تجعل من سميرة شخصية سردية ذات مواصفات تنفرد بها عن الآخرين، إلا أن هذه المواصفات بعضها لا يتسق مع بعضها الآخر، ثم إنها عادت ثانية لتصبح دمية بيد الراوي غير العليم. فنحن لا نستطيع أن نميز هبة عن سميرة، وسميرة عن هدى، وهدى عن كامل، على الرّغم من أن هذا الأخير ذكر . علة هذا، بطبيعة الحال، أن الكاتبة تسلِّطُ عنايتها على المجرَيات، لا على عالم الشخوص، مما جعل شخصيات الرواية  كالدمى في مسرح العرائس، يحركها الملقِّنُ الخفي، فكامل سرعان ما أصبح مناضلا معتقلا، وكذلك هدى، وسميرة ذات العفاريت تغادر لدمشق لدراسة اللغة والأدب العربيَّيْن، وعزيزة تترك كل شيء وترحل إلى عمان، بلا تحفظ، أو تردد، وهبة في فقرات قليلة تقرر الذهاب إلى السعودية للعمل، وتربة والدتها لما تجفّ. وهذا يطرح سؤالا آخر؛ ما الذي يكمن وراء هذا الإيقاع اللاهث السريع جدًا للحوادث؟ ألا يتجاوز بسرعته ما هو محتملٌ، ومقبول؟ علاوة على سؤال آخر، وهو ما نفع الفصول التي تتكدس فيها تراكُمات وصفيَّة لبعض المأكولات الشعبية، والمناسبات، والاستحمام في الحمّام العمومي، وما يتجلى فيه من فروق طبقية؟ وما نفعُ التَسكُّع في سوق السكر، وسوق الذهب، وسوق البخارية، إلخ..(انظر ص 127- 130) أليس في هذه التفاصيل ما يعيق التركيز على الشخوص؟ وعلى الوقائع ؟ ألا يؤدي ذلك لتشتُّت يحيل الحكاية لمشاهد مبعثرة في ما يشبه الدليل السياحي؟ 

وأيا ما يكُنِ الأمْر، فإن محاولة سوزان دروزة هذه لاستعادة ما جرى في نابلس عشية الاحتلال في 5حزيران – يونيو 67 وما تلاه، من خلال الوقائع التي تتعرَّضُ لها أسرة فقيرة، محاولة جيّدة، وذات رؤية متبصِّرة، تستحقُّ منا التنويه، على الرغم من أن السرد لديها يتجلّى في أبْسَط صُوره. 

 المصدر: قاب قوسين