بورتريه ديبورا كيب وأطفالها للفنان الهولندي بيتر بول روبنز، 1630

"مجلة جنى" كان روبنز شخصا متعدّد المواهب والاهتمامات. كان رسّاما ولغويّا ومثقّفا وديبلوماسيّا كثير الأسفار. 
وبسبب نزاهته الشخصية، لم يكن مستغربا أن يُكلَّف بالقيام بمهامّ ديبلوماسية أدّاها تحت ستار كونه رسّاما. 
وأهمّ رحلة ديبلوماسية قام بها كانت في عام 1627، أي في منتصف حرب الثلاثين عاما، عندما كُلّف بالذهاب إلى اسبانيا في محاولة لإنهاء تلك الحرب التي بدأت تؤثّر على بلده. 
وقد استقبله الملك فيليب الرابع، وبعد ذلك بعامين أرسله الملك إلى لندن كمبعوث له في محاولة للتوصّل إلى معاهدة سلام بين اسبانيا وانجلترا. 
وخلال إقامته في بريطانيا، نزل ضيفا على بالتازار جيربييه الذي كان هو نفسه فنّانا وديبلوماسيّا. وكان الأخير قد وصل إلى لندن لأوّل مرة بصحبة السفير الهولنديّ عام 1616 ثمّ استقرّ فيها بشكل دائم. روبنز وجيربييه كانا قد التقيا قبل ذلك بأربع سنوات في باريس ونشأت بينهما علاقة صداقة. 
كانت عائلة جيربييه تعمل في تجارة الأقمشة. لكنه كان يزعم أن جدّه كان باروناً وأن عائلته تنحدر من أصول نبيلة. 
وأثناء إقامة روبنز في منزل صديقه، رسم لزوجته وأطفاله الأربعة هذا البورتريه الذي أراد أن يكون لمسة وفاء منه إلى صديقه الذي استضافه في منزله وتذكيرا بتلك الزيارة. 
زوجة جيربييه، ديبورا كيب، كانت ابنة عضو ثريّ في الجالية الهولندية في لندن في ذلك الوقت. ومن الملاحظ أنها هي وأطفالها فقط من يظهرون في الصورة. وليس معروفا لماذا لم يظهر الزوج في البورتريه الذي يُفترض انه عائليّ. 
البورتريه يؤكّد على الفكرة الأساسية، وهي العلاقة القويّة التي تربط الأمّ بأطفالها. وقد ضمّنه روبنز الكثير من التفاصيل التي تدلّل على مكانة العائلة، كفستان المرأة المطرّز والملابس الفخمة التي يرتديها أطفالها. 
في اللوحة تظهر الأمّ وهي تحتضن رضيعها، بينما الابنة الكبرى التي ترتدي فستانا اسود تبدو هادئة، والصغرى تسند ذراعها إلى ركبة أمّها وتنظر، هي وأختها، إلى الرسّام. 
ورغم كثرة التفاصيل في الصورة، إلا أن روبنز سيطر على التوليف بجعل علاقة الأمّ بأطفالها نقطة الارتكاز في الموضوع. 
جمال وثراء الألوان وتموّج الخطوط والطيّات الرائعة للستائر والفساتين، كلّها عناصر تكشف عن الحساسية التي رسم بها روبنز هذه اللوحة. 
صورة الطاووس الذي يستقرّ على طرف كرسيّ الأمّ يرمز للثراء الارستقراطيّ. لكنه في الفنّ المسيحيّ يرمز إلى العذراء باعتبارها الأمّ المثالية. 
ومن التفاصيل اللافتة الأخرى في اللوحة أن الأمّ تبدو حزينة وواجمة، بينما ينظر إليها الابن الأكبر وكأنه يستشعر حزنها. 
كان زوج المرأة، أي جيربييه، شخصا مغامرا وانتهازيّا. وقد أوقعه هذا في العديد من المشاكل. ولا بدّ أن تلك المشاكل ألقت بظلالها على علاقته بزوجته وبيته. والغريب انه مات معدما بعد حياة الجاه والثراء، وعاش أبناؤه من بعده على إعانات الدولة والمحسنين. 
لم يكمل روبنز رسم اللوحة أثناء إقامته في لندن، فأخذها معه عند عودته إلى انتويرب. لكنه توفّي فجأة عام 1640، فعُهد بإكمالها إلى رسّام زميل يُدعى ياكوب جوردانس. 
كان روبنز أكثر رسّامي عصر الباروك نفوذا في شمال أوربّا. وقد تبنّى أسلوبا ثوريّا في الرسم اكتسبه في ايطاليا التي أقام فيها ثمان سنوات في نهاية القرن السادس عشر. 
وعندما سافر إلى اسبانيا عام 1627، رأى العديد من لوحات الرسّام الفينيسيّ المشهور تيشيان، وأثّرت ألوانه الناعمة واللامعة كثيرا على أسلوب روبنز في ما بعد. 
ومما لا شكّ فيه أن انغماس الفنّان في السياسة الأوربّية عزّز من مكانته وسمعته كرسّام. كان يتنقّل بين قصور الأمراء والملوك الأوربّيين بحرّية. وعندما حلّ السلام بين اسبانيا وانجلترا كافأه ملكا البلدين بوسام من مرتبة فارس. 
أثّر روبنز في الكثير من الرسّامين الذين جاؤا بعده وترك بصمته على فنّهم وكرّس من خلال شخصيّته نموذجا لما يجب أن يتّصف به الفنّان من ثقافة واستقامة وموهبة. 
كان روبنز كاثوليكيا تقيّا، ما جعل خصومه يتّهمونه بممالئة المؤسّسة الكنسية. ومع ذلك استمرّ نموذجه وتأثيره في أوربّا والعالم ووصلت لوحاته إلى كلّ مكان واستُنسخت عددا لا يُحصى من المرّات.