قلوب متشظية

الشظيّة الأولى:

توقّف عمرها عند السادسة و العشرين منذ تسع سنوات، تمرّ السنة تلو الأخرى محاولة اقناع نفسها بضرورة الانتظار فهنالك صيد ثمين في الأفق، وأن لا داعي للاستعجال في هزّ الشباك، تقضي أيامها قرفصاء علّها تتصيّد فريسة تقيها الحاجة وشتّى أنواع الجوع، سنة عن سنة يتضخم دفتر تحملاتها وتتدنى بالمقابل أسعار موادها الخام، وهي قرفصاء لا شغل ولا شاغل ولا من يجبر الخاطر.. فقط عينان مضيئتان ترقب عبر سور متآكل من سيطل  من تلك الشقوق، لكن لا أحد هناك سوى الأربعين بسنّه المكسور .

الشظيّة الثانية:

وهما يعبران الشارع لمح بعين المستكشف لوحة يهمّ صاحب معرض الأثاث بادخالها استعدادا للإغلاق، شدّ ذراع صديقه في انفعال بَيّن وغيّر الوجهة صوب المحل، استأذن ثم تصلّب أمام اللوحة وهو يغمغم :

لم يترك الصينيون شيئا دون تقليد ويْ يا للعفاريت الصفر. 

واصل بصوت مسموع وصديقه كالأطرش وسط الزفة:

ليلة النجوم للفريد فان غوخ رسمها سنة 1889 من نافذة غرفته بالمصحّة.. قطع أذنه من أجل امراة، نوبة من نوباته الجنونية؟ عصفة حب جنوني؟ لا يهم حقّا المهم أنه أهدى قطعة من أذنه لامرأة.

أتملك الجرأة لارتكاب مثل هذه الحماقة؟ أو من أجل البرهنة على حماقة الحب؟

للأسف أنا لست أحمق كفاية، أو لم يصبني ما يكفي من الحب.

الشظية الثالثة :

هَدَّهُ العشق، ركن الى زاوية الزقاق كعادته بعد أن أنهى جولته اليومية.

بحثا عن الحبيب في أي شيء و كل شيء، له عمر على هذا الحال يقول أهل الحي، ولو أنه أمدّنا ببعض العلامات لساعدناه في بحثه، اعتاده الناس، ألفوه وبادلوا انشراح نفسه وقلبه بانشراح أكبر.

كسنّة المحبّين ليس للعجوز مأوى، يسكن الفضاء الرحب ويعيش على ما يجود به محبّوه، سِرُّ وَهَجه حسب العارفين به مصل حياة يقتات عليه لا يفارق لسانه، يقولون أنشودة لا يعرفون أصلها لكنهم حفظوها لكثرة سماعها من المحبّ العجوز، يداوم على ترديدها وهو يجوب الشوارع أثناء البحث :

رأيت ربّي بعين قلبي
فقلت من أنت؟ قال: أنت
فليس للأَيْنِ منك أينٌ
وليس أين حيث أنت
مُنَّ بالعفو يا الهي
فليس أرجو سواك أنت

الشظيّة الرابعة:

دبّرت أمورها على أن تخرج من المنزل في تمام الثامنة وعشر دقائق كما يفعل هو بعد أن سئمت الاكتفاء بمراقبته عبر النافذة والاستمتاع باستنشاق عطر غوتشي الذي يخلفه في الممر كل صباح، ألقت نظرة عبر العين السحرية بعد سماعها صكة الباب وخرجت مسرعة محاولة اخفاء ارتباكها وخفقان قلبها، القت التحية ووقفت بجانبه تنتظر وصول المصعد، فتح لها الطريق ودخل بعدها، اربكتها ابتسامته وأناقته الصارخة فانمحى من ذهنها كل ما أعدته من كلام مسبق، استأذن منها متمنيا لها يوما سعيدا وقصد المخرج بكل ثقة متوجها نحو الطاكسي الذي دائما ما يكون بانتظاره لتعود هي وتأخذ المصعد لبيتها.

أعادت الكرّة في اليوم الموالي، فتح الباب ليجدها أمام المصعد بادلته الابتسامة والتحية و وقفا ينتظران للحظات، اثار انتباهها كثرة ملامسته لهاتفه وشعره وعدم  قدرته على اطالة النظر فيهاايضا فاستشعرت اعجابا ما يلوح في أفق تلك الجدران المعدنية و أن خجله و ادبه ما يمنعه لا محالة من التسرع و الذهاب  الى أكثر من السؤال عن الحال، استأذن ثانية وخرج بهامته الرياضية وهي تلاحقها بنظرها وسائق الطاكسي يفتح له الباب ليصعد وكأنه من المشاهير المتخفين ، نكشت شعرها متخلصة من تسريحتها المتكلفة التي لم يعد لها من ضرورة، خلعت حذائها وأخذت السلالم كي يطول زمن انتشائها بهذه اللحظات الخاطفة مستبعدة أي تفكير آني في الطريقة التي ستختصر بها الطريق.

في الغد منعتها جلبة عصف الافكار والسيناريوهات المحتملة عن سماعه  فتخلفت عن ركوب المصعد معه، أخذت السلالم بسرعة محاولة اللحاق به وهي تنظم في ذهنها العبارات التي ستطلب منه عبرها أن يوصلها في طريقه كحيلة من أجل اذابة الثلج بينهما.

وهي تقفز آخر درجتين رأته يخرج من المصعد باتجاه الباب،  وقفت ترتب ملابسها لوهلة،  ثم هرولت باتجاهه وما إن همت بالمناداة عليه حتى ارتطم بقنينة غاز كانت امام مدخل البناية سقط بقوة، لكنه سرعان ما جثم على ركبتيه يتحسس الأرض يمينا و يسارا بحثا عن هاتفه وحقيبته، أسرع السائق نحوه يساعده على النهوض وينفض الغبار عنه معتذرا عن عدم انتباهه للقنينة لاعناً من وضعها بتلك الطريقة أمام الباب، طمأنه والحمرة تعتليه وقال إن عليه التعود على استعمال العصا، أخذه من يده أركبه السيارة وانطلق.

بقلم: رفقة أومزدي، كاتبة من المغرب

اقرأ أيضا