قراءة تأملية في قصيدة : ما لم تقله مي لجبران للشاعرة دنيا الشدادي للشاعر عبد العزيز ابو شيار

قراءة في / قصيدة ما لم تقله مي لجبران/ للشاعرة دنيا الشدادي

ذ.عبد العزيز أبو شيار

من ديوان : تسير خطاي ولا أسير

"مجلة جنى" الشاعرة دنيا الشدادي تصرح في بداية القصيدة أنها محايدة في أبجديات الغرام لكنها تحاول أن تسبر أغوار هذا الحب متسربة إلى أعماق الروح تغوص في شخصية الأديبة مي زيادة في اندماج روحي عاطفي قوي معها وكأن روح مي قد حلت  بروح الشاعرة دنيا الشدادي .تقول في مطلع القصيدة :

فكيف ابوح بدقات قلبي نهارا ولست أحبك إلا كطيف ظلام ؟

وماذا سأكتب ؟ لا علم لي غير .أنت حبيبي

وبعض المخاوف في مهجتي

وبعض القليل الكثير .الكثير القليل من الأمل المستحيل

والشاعرة تؤمن أن اللقاء بينهما سيكون ضربا من المستحيل فلا أمل يبشر بلقاء هو ذاك الأمل المستحيل تقول:

سنون عجاف

ولا شيء ينذر بالنزر ..

لا شيء غير خريف الدروب !

ثم لا تنفك أن تتساءل الشاعرة دنيا الشدادي بروح مي زيادة  بأنها كيف تبوح إلى حبيبها بهذا العشق وكيف تفرط في العشق وفي المعشوق ثم إنها تعرف حبيبها يعرف كل ما يختلج بروحها من حب إلى حد الاحتراق من خلال تلك الأوراق والرسائل المفعمة عشقا تقول الشاعرة دنيا ..

وكل الذي كتبت

على ورق في يديك

قد التهم الحرق منه مليا ..

وليس سوى ذكره يحتويك .

ثم تلتفت الشاعرة دنيا على لسان مي إلى العذال واللائمين في الهوى أن الحب جنون فالضلال هدى والهدى ضلال فلا عقلانية في الحب ولا منطق ولا قياس وأن نصف البداهة  تتجلى في ما لا يقال .فلا خطيئة في الحب ولا لوم ولا عتاب وما ذنبها إذن حين عشقت جبران دون الرجال ؟

فدع عنك لومي

فكل الضلال هدى

والهدى كالضلال

ونصف البداهة ما لا يقال

وكل خطيئة قلبي

وحيدا ..

عشقتك دون الرجال .

وحين يكون العشق بعيد المنال وعن آلاف الأميال والأمل طيف خيال يشتد الشوق ويزيد الظمأ ..تصبح القصة أكثر غرابة وفرادة ولن تتكرر لامرأة أخرى غير مي ..تقول الشاعرة دنيا

أراك غروبا على طيف لون

ونجما كما الزهر يسكن حزن

وجسرا إلى بشر يعشقون

ولكنهم لن يكونوا أنا..

وتختم دنيا قصيدتها بهذه الخاتمة الرائعة بقولها

لنلقي في النهر أقلامنا

ثم نغرق في دفء حضن ..

و من خلال مضمون القصيدة  الجميلة كنت أتساءل عما تعنيه كلمة حب، فلا أحد يجيب إجابة مُقنعة تفي بالغرض وتجلو معناه الكامل، فالبعض يقول شيء محسوس لا ملموس، مُدرك غير مفهوم، منطق لا معقول. وآخر يقول هي تلك الوردة التي تُطوي بداخل ورقة تُرسل من أقصى إلى أقصى فتذبل، وما إن يلمسها الحبيب تنبض بروحه.. أو علها سحر الكلمات، ورونق العيون وألقت الأرواح التي تهيم بالأنفس باحثة عن شيء لا يعيه سوى طرفيه، وأن ما سواهم ليسوا سوى أشياء ساكنة أو علها خُلقت لتُخلد ذكراهم وتكون عاملا بيئيا لا أكثر

ولكني كلما تطلعت إلى التاريخ البشري وجدت فيه من العِبر في الحب والعشق ما يُنزل العَبرات كما السيول تُغرق صاحبها وتُغدق عليه من نعم الإحساس فيلمسها ويُروي بطيبها. والناظر إلى الأديب جُبران خليل جُبران لن يلحظ شيئا ملموسا في شكله، من شاربه الضخم وأنفه الحاد، وشعره الذي نُحل فلم يبق في شكله سوى روحا تنبض بكلمات غير مفهومة، سوى لمن أيقن معانيها وهام بروحه ليلتقي بروح كاتبها وأديبها. وإذا نظرت إلى مي زيادة كذلك لن تجد فيها شيئا مميزا من عين زرقاء وشعر أشقروجسد بض، وأضف إلى ذلك هذه الشكليات التي باتت تُشكل معنى الحب المغمور الذي يطويه الزمن ومشاكله فكلما أمعنت النظر فيمن حولي وجدت هذا يبحث في تلك عن جسد ممشوق، وعين ساحرة وأنف دقيق، وهي تبحث فيه عن عضلات مفتولة ولحية مُنمقة ومال وفير، ويطلقون عليه في النهاية حُبا بل يزيدون ويطلقون عليه عشقا. والكل قد هجر ما بقي من المرء وإنه الروح، رونق وهيبة ووقار ونظم كلمات صامتة تلمس الروح الجافة الجامدة فتسير فيها الحياة باحثة عن معانيها وتُعلمها أسس الدنيا والآخرة في كلمة الحب

فوجدت مي قد عشقت جبران ولم تره، وتبادلا كلمات على ورق، كتاب هنا، أو ربما خصها هي برسالة بل رسائل، وردّت عليه بخطاب وأكثر. وقد كسروا كل تلك القواعد التي تصل المرء بمن أحب في صورة سوشيل ميديا وخلافه، فهي لم تره سوى صورة، ولكنها جسدته روحاً كاملة، كأنه قد خلق لأجلها وخلقت لأجله. فكانت الحياة موجودة قائمة بكل معانيها رغم غياب شخصين هما في الحقيقة أصولها وهما المحب والحبيب، فترى روحين تُحلقان في سماء بعيدة لم تطأها قدم سواهما، تنبض بما لا ينبض به أهل الأرض من الحب. فزهدوا في علاقة مشوشة من اللقاء رغم حرارته وأمانيه، وتعلقوا بكلمات مجردة بالنسبة لمن لم يُحب، ورأوا في تلك الكلمات الحياة كلها. وأنا أشعر ولو لحظة واحدة بأني جُبران وما بين يدي الآن هي ورقة خطتها مي زيادة بروحها فتجسدت أمامي وردة تتحدث تنبض بروحها وتهيم بكل جوارحها وتقرأ من كلماتها باسمة فيشغف ويعشق.

وأخرج من هذا الحلم إلى كابوس اجتماعي خلق لتعكير صفو الأرواح ونكران صنيعها، كأنّا في مكان لا يحيا فيه سوى مسوخ اجتماعية وأشكال غير مألوفة لمَن أحب؛ فأعاتب نفسي.

ظلت مي زيادة تعشق جبران، حتى إنها لم تجتمع به ولو لمرة واحدة فقط، ومات هو، وجُنت هي في النهاية، ورحلت من بعدها. أي رباط مقدس هذا الذي يربط الأرواح بما تتعلق، وأي نفس تهون عليها نفسها فتُعذب وتُلقي بأيديها إلى التهلكة. إننا قد أصبنا في أنفسنا بعفن الحب وأطلقنا عليه سماءه، وأصبنا في أنفسنا بالهجر فلم نذرف دمعة واحدة سوى شكلاً لا معنى فيها. وكل ما رأيناه من الحب ولمسناه هو حضور من أطلقنا عليه المُحب كاملاً فلم ننعم بلحظة واحدة سعيدة، حتى وإن كُنّا سعداء فهي ليست بالسعادة الكاملة. فإذا فقد المرء من أحب ماذا فعل، تناساه ونسي ما له من ذكريات، وإن تذكرها لن تسيل منه دمعة واحدة، ربما تبسم حتى رحلت الذكرى عنه.

أي منا أحب يوماً ولم يُنصفه حبه، ولم يُسعفه فبكى، واعتزل الحياة بغير مَن أحب، وانتظر وصلا به في آخرة تؤمن بالوجود الحقيقي، أأحببت ما شئت ففارقته، أما عشقته فعلمت أنك مُلاقيه!والأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف ..

وهذه القصيدة وجدانية عميقة المعاني ماتعة مركزة مختصرة تحمل أنبل وأعظم عاطفة بشرية إنها العشق الروحي حد الفناء ..جاءت على الحر إيقاعها موقع بوزن المتقارب ..فعولن فعولن ..مستحضرة تاريخ علاقة إنسانية فريدة مفعمة بمعاني الحب السامية التي تعلمنا أن حب الأرواح لا يفنى أبدا ..