"عش اليمام" لكاثرين ما نسفيلد.. سباق مع الزمن والكمال

"مجلة جنى" حين تُسأل معظم الأديبات البارزات في القرن العشرين عن الكاتبة التي كانت في الأساس مصدر إلهامهن، غالباً ما كانت الإجابة واحدة: كاثرين مانسفيلد؛ وبخاصة حين يتعلق الأمر بالقصة القصيرة. ولئن كان شيء من الحيرة يستبد بالمجيبات على هذا السؤال بصدد هوية الكاتبة- هل هي نيوزيلندية من جراء مولدها في تلك البقعة البعيدة من العالم، أو إنكليزية لتمضية معظم سنوات حياتها في لندن وإبداعها فيها معظم كتاباتها، أو حتى فرنسية بفعل جذورها كما سنرى بعد قليل-، فإن الإجماع يكون تاماً لدى الحديث عن كتاب لمانسفيلد كان هو صاحب التأثير الأكبر. فمن دون روايات هذه الكاتبة، ومجموعاتها جميعاً، يقع الاختيار دائماً على مجموعة «عش اليمام» بوصفها العمل الأكثر تأثيراً. ومع هذا لم تصدر هذه المجموعة إلا بعد موت مانسفيلد شابة، ناهيك بأن معظم قصصها القصيرة ومقطوعاتها الأخرى تبدو هنا غير مكتملة، على عكس نصوص الكاتبة الأخرى التي صيغت بعناية وحذق تطريز الدانتيلا، فما الحكاية؟

الحكاية بكل بساطة أن مانسفيلد كتبت كل النصوص التي جُمعت في «عش اليمام» خلال السنوات القليلة التالية في حياتها لإنجازها عمليها الرئيسين «بين الدمية» و «غاردن بارتي»... في وقت كانت تعلم فيه أن حياتها آذنت بالغروب. ومن هنا، من دون أن تتمكن من استكمال أي نصّ مهما كان قصيراً، راحت تكتب بسرعة وكثافة متنقلة من حكاية إلى أخرى تسابق الزمن تريد أن تترك قطعاً كثيرة من روحها وراءها. ومن هنا جاءت تلك النصوص على تلك الشاكلة عابقة برائحة الموت، ولكن خاصة بأحزان وآلام أولئك الذين يتركهم الموتى صغارا عند رحيلهم: أمّ لا تصدق ان ابنها قد مات (كما في «بعد ست سنوات»)، أو رجل عجوز لا يتذكر ابنته الراحلة صبية إلا فيما هو قابع متأملاً ذبابة تحط في قدحه (كما في قصة «الذبابة»). لكن ثمة من بين القصص ما يتجاوز ذلك للوصول إلى نوع من الغرابة الوجودية، فمثلاً في القصة الأطول في المجموعة، «عش اليمام» التي أعارت عنوانها للمجموعة ككل، ثمة جمع من نساء مستوحدات مستوحشات، يظهر بينهن في شكل غير متوقع، رجل غريب...

في الحقيقة أن الشعور الأول الذي يخامر قارئ هذه المجموعة القصصية - وغير القصصية أيضاً - لكاثرين مانسفيلد، هو أن ما لديه هنا، إنما هو تخطيطات ومشاريع قصصية تهتم أول ما تهتم برسم مشاعر وتصوير شخصيات وكأن الكاتبة أرادت هنا أن تجهز كل هذا لأعمال أكثر اتساعا ولتشابكات بين الشخصيات أكثر تعقّداً وارتباطاً بمعاني الحياة. غير أن هذه الفرضية لا تنقص من قيمة النصوص بل حتى من ذلك الشعور الذي قد يخامر المرء إن هو قرأ آخر ما كتبته تلك المبدعة الشابة وهي تودع الحياة بهدوء راغبة فقط في أن تؤكد أنها في الوقت الذي تطل فيه على العالم، تحاول أن تتمعن فيه قبل مفارقته قادرة على وضع مخططات لتجاوز كل ما كتبته في الماضي، وما كان يتعين عليها أن تكتبه بعد. ومهما يكن من أمر، علينا أن نلاحظ هنا كيف ان كاترين مانسفيلد تعترف في يوميات أيامها الأخيرة، التي لم تنشر في أيّ حال إلا عام 1927، بعد أربع سنوات من موتها، أنها تشعر بقدر كبير من القلق أمام حسّ كان يستبد بها ويجعلها غير راضية عما تكتبه وتودّ لو أن الزمن يسمح لها بإعادة كتابته.

ويقينا أن هذا ينطبق بخاصة على روايتها الرئيسة «التمهيد» التي نجد في المجموعة الكثير مما يذكرنا بها، منقّحا ومزيدا كما يقال. فهنا لدينا بيت صغير في الريف، حركة هادئة تنمو كما لو كانت تتم وسط تكتم شديد، نساء وفتيات يتحركن دون هدف، بطة تُذبح، وعبر ذبحها يتم التعبير الهادئ عن وجود الشر والبؤس، ثم أخيراً حالة انتظار لا ينتهي، حالة انتظار فريد من نوعه لا يقول أي قلق أو يتوقع أية راحة بال. ذلك هو العالم الذي وصمته الكاتبة في «شجرة الألويس» (الصياغة الاولى لروايتها «التمهيد»). وشجرة الالويس التي تستعير كاثرين منها، ها هنا، اسمها، هي شجرة تنمو في المناطق الاستوائية ومن أهم خصائصها أنها لا تثمر سوى مرة واحدة كل مئة عام.

فهل ثمة ما هو أكثر من هذا الواقع مدعاة للانتظار الطويل، الممل الذي يبدو وكأنه من دون هدف؟ مهما يكن فان حياة كاثرين مانسفيلد، التي بجّلها كتّاب من طينة فرجينيا وولف ود. هـ. لورانس ما ان اطلت عليهم في أوروبا الصاخبة عهدذاك، كانت حياة انتظار رغم قصرها، فالكاتبة ذات الأصل الفرنسي، الآتية من اعماق نيوزيلندا، لم تعش حتى عامها الخامس والثلاثين، عارفة خلال حياتها بأن موتها قريب، فكانت تنتظره بكل هدوء واذعان تماماً مثلما كانت تفعل في فيلم استوحي من دلالات حياتها، بطلة الفيلم حين كانت جالسة في بيتها المعزول، وسط صحراء الغبار تنتظر وتنتظر من دون ان تعرف ماهية الشيء الذي تنتظره.

بهذا المعنى تنتمي كاثرين مانسفيلد إلى الفئة التي كانت تنتمي اليها نساء مبدعات قلقات شغلن سنوات الجنون الفاصلة بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين، ففرضن حضورهن الأدبي المبدع، من دون أن يتمكن من فرض حضور يبقى رغم مضي السنوات. نتحدث هنا عن كاثرين مانسفيلد لكننا نتذكر اليزابيت ابرهاردت مثلاً، وغيرها من النساء اللواتي آثرن الخروج عن عزلة حياتهن وجذورهن والالتحاق بركب الحياة.

لئن كانت كاثرين مانسفيلد (واسمها الاصلي كاثلين بوشان) قد عاشت طفولتها في عزلة بلدتها النائية القريبة من ولنغتون عاصمة نيوزيلندا، فإنها سرعان ما راحت تتوق إلى البعيد، إلى أوروبا عالم الصخب والجنون، فأقنعت أباها بأن يرسلها إلى لندن، حيث عاشت وتلقت دراسات ثانوية وراحت تختلط بالأوساط الأدبية، بيد انها سرعان ما أحست ببوادر الأمراض تهاجمها، فعادت إلى نيوزيلندا وكانت قد أضحت في الثامنة عشرة من عمرها، غير ان الحياة هناك لم تستهوها فحصلت من ابيها على معاش شهري وتوجهت ثانية إلى لندن حيث كانت قد اتخذت قرارها بالانصراف إلى الكتابة وقد وقعت في وقت واحد تحت تأثير تشيكوف وكافكا. وفي لندن سرعان ما تزوجت ثم اصدرت مجموعتها القصصية الأولى «في نزل ألماني» (1911) التي لفتت أنظار فرجينيا وولف من فورها، فكتبت عنها تقريراً أوصل الكاتبة الشابة إلى أولى مستويات الشهرة، وبدأ القراء الذين راح عددهم يتزايد باستمرار، يكتشفون كتابة جديدة طازجة تنتمي مباشرة إلى حداثة القرن العشرين: كتابة معقدة من العسير تحديدها ضمن تعريف محصور. ومنذ اللحظة التي استُقبلت فيها قصصها الاولى بالترحيب، لم تتوقف كاثرين مانسفيلد عن الكتابة والنشر، إذ إنها خلال السنوات العشر التالية كتبت مئات القصص القصيرة، وعشرات الرسائل إضافة إلى يومياتها.

وكان من الواضح ان احساس هذه الكاتبة الشابة بأنها منذورة للموت كان هو محركها الأساسي، إضافة إلى أن تأثرها بالروسي انطون تشيكوف، وإلى حد ما بمسرح هنريك إبسن وعوالم كافكا، كان يدفعها للإيغال بعيداً في شحذ مخيلتها ونشاطها، وهكذا أصدرت تباعاً «سعادة» (1920) «تمهيد» (1921) «على الخليج» (1922) «حفلة الحديقة» (1922) «بيت الدمية» (1922) و»عش اليمام»، المجموعة الأخيرة التي صدرت بعد رحيل كاثرين عند بدايات العام 1923.

في عالم كان قد خرج لتوه من اتون الحرب العالمية الاولى، وعاد لاستكشاف الأدب ولغة الذات الصارخة، عرفت كاثرين مانسفيلد كيف تفجّر لغة قصصية صارمة وعذبة في وقت واحد، وكيف تجعل قراءها والنقاد يكتشفون العلاقة الحميمة بين شخصياتها وبين حياتها، وسط عالم كان من الواضح بالنسبة إليها فيه أن الشر يكمن في كل مكان، هادئاً منتظراً، ما علينا سوى تحريك بعض الغبار، لكي ينبعث صارخاً فاعلاً في النفوس. وما أدب كاثرين مانسفيلد سوى صراع دائم وقاس ضد ذلك الشر، وهو صراع قاد الكاتبة في سنوات عمرها الاخيرة، حين انصرفت للعيش في فونتينبلو إلى الجنوب من باريس، للانخراط في جماعة نسوكية إبداعية تقوم على مفهوم البحث عن إنسانية الخير المكلف عبر التعبير الادبي والفني، وهي الجماعة التي كان يتزعمها غودرييف. ومن الواضح أن التناقض الحاسم بين حياة تلك الجماعة وزهدها، وصخب العواصم التي كانت قصص كاثرين تعبّر عنها، ساهم في شكل أساسي في تعجيل رحيلها، وفي عدم اعتراضها في ذلك على مشيئة القدر.

عن "الحياة" اللندنية

المصدر: قاب قوسين