منمنمات مصرية .. سكرى بالشوق على مقعد شاغر

مطار برج العرب ، الإسكندرية

رحلتي فوق البحر المتوسط ، هي أقسى مراحل طيراني ، أصل مطار الإسكندرية ، تهبط الطائرة متعجلة ! تهبط روحي متعجلة ، آه الحمد لله ، وصلنا بسلام أخاطب روحي ، ونركض على درجات السلم التي تقودنا إلى معبر إجراءات الدخول ، موظف الإجراءات الأمنية ينظر كثيرا إلى جواز سفري المتخم  بتأشيرات الدخول ، يسالني : تسافرين كثيرا  ماذا تعملين ؟ رحالة أجيبه وأبتسم . لا تعجبه طرافتي ! فأعيد إستنساخ الجواب مهنتي السفر!

أرتحل بين المقامات ، والنهاوند ينتحب في عروقي ، فهل من وطن يحتويني ؟.. 

شاطئ الإسكندرية : 

كلما صفقت الريح أبوابي المشرعة بإتجاه البحر ، أعود لأفتحها في روحي .. لأمنح لمهاجري البحر فرصة الاستيقاظ من خراب الحكاية ! 

أو لأشعل النهار في عمق البحر المظلم ، هيأت لهم المراثي على حافة موجة هادرة .. 

صرت الآن مسكونة بأصوات الأحياء والأموات منهم ، أكتبهم طوال الوقت على جدران روحي ، كي تنهض المقبرة بميلاد جديد .. 

اسمح لنفسي أن أستعير اصواتهم التي أقلقت هدوء قصائدي ، كي أخبر الحكاية ، ومن سوى الكلمات توقظ مقابر الخزف الأزرق ، لتكتب شهادات راكبي البحر ؟ 

مقهى ديليس : *

أجلس وحيدة ، كما هي عادتي هناك ،أحتسي الشاي على مهل ، أتأمل الفضاء حولي ، وأسجل إنطباعات سريعة في دفتري المشبع برائحة البحر ، 

أصوات كثيرة أميزها بدقة ووجوه متعبة تتأمل في الفراغ ، عاشقان صغيران يختفيان في زاوية الصالة ، يتعاتبان ، يعلو صوتها ، ويداها ترسمان مستقبلا غامضا في الهواء ، تحمل هاتفها النقال الذي لم يهدأ عن الزئير والصفير والحركات ، بجانب كأس العصير الفارغ ، تمضي محتضنة هاتفها ، ينشغل العاشق في طلب فاتورة الحساب لجلسة  لم تنته بعد ، تعود العاشقة تبحث عن شنطة يدها ، ترميه بنظرة عتاب ، وتنسحب . 

مقعد شاغر : 

لا أحب الحكايا من دخان ! لذلك أكتب بشراييني في صحراء الكلام 

أكتب ذكرى ووعداً ، وأمحو اليأس والنسيان 

على بابي لم يتوقف ساعي البريد ، لم يترك لي حفنة من هواء 

ولا ظل السيدرا ، ولا عطر الكلام في إناء 

على بابي ما سقطت تفاحة المعاني 

سكرى بالشوق  على مقعد شاغر 

أمسك الزمن بخيط  ألفه إلى الوراء كي يعود 

خطوة على شاطئ مسحور ، وحكاية إمتدت بين الشمس والقمر ، وظلان يرتعشان 

على صفحة الماء 

لا أحب الحكايا من دخان !

فندق سان جيوفاني : 

أخفق بجناحي بين لغتين ، وأحتار بأية لغة أرسمك ؟ 

تسألني بألمانيتك الجادة ( متى تعودي ؟ ) 

اتردد بأي لغة أجيب .. 

كلما تواصلنا تنقشع غمامة من حولي ، وينعق صوت مسامي 

أشكل اللغة نيئة ، طرية وطازجة ، لأنشرها على حبل المعاني بيني وبينك 

أجيب ضاحكة لن أعود ، تسحرني الإسكندرية برغم البحر ، خوفي من البحر .. 

قد أعود لكن روحي ستفر مني هنا ، مشاكسة عابثة ، تتسلق الجدران ، تنظر من ثقوب الأبواب ، تتدحرج على أرصفة الطرقات ،  مما يعني أني  سأعود بدونها ، خاوية ، غيورة حاسدة 

أتخيلني أعود إلى دياري بدون روحي .. يالسعادتها ، ويالشقائي 

موعد مؤجل : 

سامحيني تأخرت المجيء ، 

كلما حاولت أن ألضم عقد الزمن بيننا ، ينفرط من جديد ،

كلما حاولت أن أطهو أيامي كما أشتهي ، أفشل .. 

أنا كعشبة صحراء ،، ماتت قرب نهر نقلت إليه !

رغبة جامحة تدق صندوق رأسي وقلبي ، كي أعود 

إلى متاهات روحي بين صحراء وبحر 

عروس المتوسط ( إسكندرية ) أغنيتك نكأت جراحي 

ووردتك العاتبة طوقتني بالحنين 

وحكاياك الجديدة دست خطأ في معطف عمري 

سأتيك ، إلى البحر والرمال 

إلى وردة أدين لها بإعتذار 

تأخرت المجيء 

في القطار بين الإسكندرية والقاهرة :

عاجزة أن أعود إليك الآن ، لكني سأرسل لك أرواحي الخمسة ! ملتهبة كنحل ما أدماه الطواف حولك وفيك ( ايتها المدينة الضجرة من الغرباء مثلي ) 

سأرسل إليك بالوصايا العشر 

وأختصر وصية ، بأن لاتنساني !

أفيض وجعا وحنينا ،، 

أيتها المدينة التي تتلبط في أحشائي 

تركت فيك ظلي النافر قرب البحر 

وخربشات طفولتي 

وغزالتي الشاردة 

لاتنسني 

محمود درويش ، والسفر  : 

حقيقة كان لابد أن ألقيها بين يديه حينما إلتقيته ..

قابلت محمود درويش عدة مرات ، كان آخرها في ألمانيا 

وكاد يُغمى علي !  

وعندما قابلته مؤخرا في رام الله في ضريحه المرمري 

كاد يغمى علي ! 

إحتضنت ضريحه وقرأت على مهل أجمل سوناتا نقشت على قبره المرمري 

( نم ياحبيبي عليك ضفائر شعري عليك السلام ) 

رفاق السفر :* 

أختار رفاق السفر بعناية ، ولعل محمود درويش هو الرفيق الذي لم يفارقني طوال سنين 

لم يستقبلني مطار ، أو مدينة دون دواوينه وأشعاره التي تعيد لي نسغ البقاء 

فما الذي تريده مني القصيدة ؟ 

عبثا تحاول أن تلفعني بمعطفها ، وتلتم حولي لتحميني وحشة الغربة 

عبثا تحاول ردم الأفواه التي تتفتح في جسدي وتهدأ روحي الضجرة 

أختار رفاق السفر بعناية ، قلتها لصديق رافقني على الهاتف ، طوال رحلتي من الإسكندرية إلى القاهرة ، كان ديوان محمود درويش في يدي ، وصديقي معي على الهاتف . 

قاهرة الإزدحام : 

أسير إليك مغمضة العينين ، الضوء ينحت الغمامة أمامي 

أنحي عني القلق ،وضياع روحي في الإزدحام 

لا الربح يعنيني ولا الخسارة 

كحلم شفاف تقوديني إليك ، كبذور من النار تلقح الأرض 

تتعب مني الحكاية والأجنحة والسفر 

ولا أتعب 

أجوب أضلاعك ، أسوارك ، بواباتك 

مغمضة العينين 

قاهرة المعز ، ما أسعدني 

نهر النيل : 

أمشي قليلا إلى الخلف ، أطالع بعض الصور لم تتحنط بعد على رصيف الذاكرة 

أمشي قليلا مع النهر ، وذاكرتي نافورة فتحت سدادتها : 

نحتسي معا الشاي الأخضر بالنعناع 

في مقهى قديم 

يطل على القصائد ، تمر من الرصيف المقابل 

ترمينا بنظرات حاسدة 

وأحاجي ، لنبحث لها عن حلول في طبق ضحكنا 

وحكاياتنا التي إرتعشت على الطاولة 

قصائد لم تكتمل 

مازالت تبحث لها عن قافية 

فهل تحب القوافي ؟

إذن فلنبحث عن نهر الزمن ، نعيده من تلك اللحظة 

أمشي إلى الخلف ، أرافق النيل لحظة الولادة 

ليتني قلت لك قبل أن ترحل .. 

..............................

صباح القاهرة بلا فيروز : 

كبرت ، كبرت ، كبرت وآلمني الإنتظار 

كبرت مثل الغبار 

وفي شرخ عمري تتفتح عواصف كالبراعم 

 تتفتق كعيون أدمتها المخالب 

تنز حرائق الحكايا الأخيرة ،، وخيبتي في الإنتظار 

الطفلة التي كنتها عصر صوتها الخافت في الرمال 

أنا الآن أحتمي خلف القلادة ، ينفرط عقد عمري وتذكاراتي 

أركض داخل الألوان ، لأرسم حكايتي من جديد ( كما أشتهيها ) 

صباحي بلاقهوة ، إنتظار 

ولافيروز ، إنتظار 

ولا قصائد تغسل قلبي ، إنتظار 

أهملني ساعي البريد ، والهاتف المنتظر 

ذبلت أغاني الورد على نافذتي 

ما لي أنا ؟ أشتعل كبقايا صور 

أبحث عن كل شيء إلا أناي 

أسقي الخواء ، عسل الضحكات ، نبيذ الشهوة 

وترف الخطوط إذا راقصتها الظلال 

إلا أنا ؟

ألوب ظمأ ، وحنينا 

يوليو 2018 

دلال مقاري باورش: كاتبة لبنانية
المصدر: قاب قوسين

اقرأ أيضا