كتاب الكسواني "المرأة في روايات حنا مينة من 1960- 1993"

"مجلة جنى" مؤلفة هذا الكتاب " صورة المرأة في روايات حنا مينة 1960- 1993 " ناهدة الكسواني أستاذة الأدب والنقد في جامعة القدس المفتوحة ، وهي من مواليد القدس ، درست في جامعة بيرزيت في تخصص اللغة العربية وآدابها وظفرت منها بشهادة البكالوريوس وبدبلوم التربية عام 1990 ثم واصلت دراستها العليا في الجامعة الأردنية لتنال منها الدرجة الجامعية الثانية(الماجستير) عام 1994 ونالت الدرجة الجامعية الثالثة(الدكتوراه) من جامعة العلوم والتكنوولوجيا في الخرطوم عام 2007. 

والحديث عن المرأة في روايات حنا مينة حديث ليس بالجديد ، فقد كثر الكتاب والباحثون الذين تناولوا هذا الموضوع اللافت سواء في مقالات، وبحوث منشورة، في الدوريات، أو في كتبٍ، وأطاريح جامعية يتغيّا فيها أصحابها الحصول على هذه الدرجة الجامعية، أو تلك. فمن الذين تناولوا هذا الموضوع جزئيًا: جورج طرابيشي في الرجولة وإيديولوجية الرجولة في الرواية العربية(1983) وخالد قطيش في (الساقطة والمتمردة في الأدب التقدمي) 1980 وغالب هلسا في كتاب له بعنوان " قراءات في أعمال يوسف الصايغ وجبرا إبراهيم جبرا ويوسف إدريس وحنا مينة " (بلا تاريخ) ومراد كاسوحة الذي عرض لصورة المرأة في كتاب له عن " الإيديولوجية والموروث الديني في أدب حنا مينة "(1991) ونبيل سليمان الذي تناول مع أبو علي ياسين بعض روايات حنا مينة من هذا المنظور في كتابهما " الأدب والإيديولوجية في سوريا 1967- 1973 " الصادر بدمشق في طبعة ثانية 1985. ومنهم بلال كمال رشيد الذي سلط الضوء على" تلازم المرأة والبحر في أدب حنا مينة " في كتاب نشرته دار الرياض في السعودية بالعنوان نفسه 2005، وفريال سماحة التي تسلط الضوء على بعض الشخصيات النسائية في كتابها " رسم الشخصية في روايات حنا مينة " 1999. ولا تفوتنا الإشارة إلى مقالات حول صورة المرأة في روايات حنا مينة للسعافين (1980) ويوسف ضمرة 1982 وملاحة الخاني 1979.

القديم الجديد

ولأن المؤلفة ناهدة الكسواني تؤلف هذا الكتاب، وتقدمه للقارئ، بصفته كتابا غير جديد، مع أن تاريخ نشره هو 2017 إلا أنها تشير لقدمه بالعنوان الفرعي من 1960- 1993 فهي، إذن، تقتصر على روايات للكاتب صدرت قبل العام 1994. وفي هذه الحال يتوقع القارئ المتابع لأعمال مينة أن يجد فيه وقفات عند القليل من رواياته؛ كالمصابيح الزرق، والشراع والعاصفة، والثلج يأتي من النافذة، والشمس في يوم غائم، والياطر، وبقايا صور، والدقل، والمستنقع، والمرصد، وحكاية بحار، والمرفأ البعيد، وغيرها من روايات.. وتتوقف عند الأخيرة الصادرة عام 1993 وهي رواية " الرحيل عند الغروب ". 

ولا يقتصر تناولها لصورة المرأة على الروايات، بل تتجاوز ذلك، فتقف بنا إزاء آراء الكاتب الراحل في المرأة على ضوء تجاربه الأدبية، والكتابية، ولهذا تواكبُ النظرَ في هذه الروايات نظرةٌ تأملية في كتاباتِه الأخرى، ومنها: حوارات وأحاديث في الحياة، والكتابة الروائية (1992) ومنها كتاب كيف حملتُ القلم (1986) وكتاب ثالثٌ بعنوان: هواجس في التجربة الروائية 1988.

مقدمات 

ومن الطبيعي أن تستهل المؤلفة الكتاب، الذي سلكت فيه مسلك من يعده لنيل شهادة جامعية، بتمهيد، أو توطئة تعرض لواقع المرأة السورية بين الحربين العالميتين، إلا أنها فصلت واقع الحياة في سورية عن واقع المرأة، فكأنها تريد أن تقول: إن المرأة في سورية عانت من أوضاع خاصة في تلك الحقبة التي عرفت بحقبة الانتداب، فكانت – على سبيل المثال- إحدى ضحايا الاستبداد، والجهل، والفقر، والمرض، وإصرار المستعمر على حرمان الإناث من التعليم، ولا سيما في الأرياف. وقد اعتمدت المؤلفة على إحصائيات استخرجتها من المراجع تبيِّنُ شيوع الأمية بين النساء ، ومع ذلك لم تتأخر المرأة السورية عن الإسهام في التظاهرات ضد الانتداب، والمشاركة في الإضرابات، وفي معارك البناء والتحرير، فضلا عن التغيير. وأيا ما يكن الأمر، فإن مثل هذا التمهيد (من ص5- 19) على قِصَرِه، لا يعد ضروريًا لأنَّ وضع المرأة في سورية في هاتيك الأثناء كوضعها في لبنان، وفلسطين، والأردن، والعراق، وغيرها.. من البلدان، فما الذي يميز المرأة السورية عن غيرها حتى تخَصَّص لذلك مساحة ضيقة، أو متسعة، لتكرار الحديث عما عاناه العربي في حينه، ذكرا  كان أم أنثى، من تبعات الجهل، والمرض، والفقر، والاستبداد، وتغييب الحريات الفردية، والعامة، وتعميق الشرْخ الاجتماعي بين طبقات الشعب والسلطة في المدن، والقرى؟

تصنيف المرأة 

ومما يحسب للمؤلفة أنها لم تطل في هذه التوطئة، ولكنَّ ما لا يحسب لها أننا لا نجد لهذه التوطئة أثرا في مادة الدراسة، وهي صورة المرأة في الروايات. فالمؤلفة تقف بنا في الفصل الأول الذي بعنوان صورة المرأة في روايات حنا مينة وهو عنوان الكتاب نفسه إزاء مسألتين؛ أولاهما موقف الكاتب من المرأة على المستوى النظري، وثانيتهما هي الصورة المجزأة للمرأة في رواياته، فهي أمٌ، أو زوجةٌ، أو أرملة، أو اختٌ، أو ابنةٌ، أو قريبةٌ، أو حبيبةٌ، أو مومس. وهذه العناوين قد تبدو للقارئ غير محددة، إذ ليس ثمة ما يمنع أن تكون الأم زوجة وحبيبة، والأرملة ليس ثمة ما يمنع أن تكون أختًا أو حبيبة أو حتى مومسًا، والمرأة الوحيدة التي تظن المؤلفة أنها مستقلة عن غيرها، وهي المومس، لا يوجد ما يمنع أن تكون زوجة، أو أرملة، أو ابنة، أو أختًا. على أن مثل ها الخلط في تصنيف النساء يمكن تجاوزه إذا تذكرنا أنه من قبيل الخطأ الشائع، فالمرأة - روائيا - ينبغي تصنيفها على وفق الدور الذي عُهد إليها بأدائه. فالوظيفة التي يعهد إليها بها الكاتب هي المعيار، فأنيسة، مثلا، في شرق المتوسط، هي الأخت، لأن المؤلف عهد إليها بأداء هذا الدور، ولكنها في الوقت نفسه زوجة أحد شخوص الرواية البارزين (يوسف)، كذلك نور في رواية اللص والكلاب مومس، لأن الكاتب نجيب محفوظ عهد إليها بهذا الدور، وبطلة رواية بداية ونهاية (نفيسة) على الرغم من أنها شقيقة لثلاثة من أبطالها حسين وحسنين وحسن، إلا أن المؤلف عهد إليها بدور الفتاة التي تنزلق في الخطيئة لأسباب عديدة جداً. فالتصنيف ينبغي أن يقوم على أساس وظيفي، لا على أساس بيولوجي. وتبعًا لذلك، فإن التصنيف الذي اعتمدته المؤلفة- ها هنا -تصنيفٌ غير روائي، وإنما هو كالتصنيف الذي نجده في بطاقة التعريف التي تُذكر فيها الحالات الاجتماعية، ودرجات القرابة.

انعكاس

وأيا ما يكن الأمر، فإن الذي لا مِرْية فيه، ولا جدال، أن القارئ لمثل هذا الكتاب، لا يشغله فيه البحث عن مثل هذه التصنيفات، ذلك لأن الشيء الطبيعي أن تنعكس وقائع الحياة اليومية في مرآة الرواية، بجلِّ ما فيها من تفاصيل، لكن العبرة ليست في هذا الانعكاس بالمفهوم الماركسي، وإنما العبرة في الطرائق الأدبية، والفنية، التي يتوسل بها كاتب مخضرم مثل حنا مينة لتقديم هاتيك النساء للقارئ تقديمًا لا تبدو فيه غريبة عن الواقع، أو مُفْتَعلة، أو في أدائها لأدوارها شيء غير قليل من الافتعال، والتصنُّع. لأن هذا هو الميزان الذي توزن به حسنات الكاتب فترجح على مساوئه، أو لا ترجح. لذا وُفقت المؤلفة في اختيارها مادة الفصل الثاني، وهي مادة تجيب عن هذه الإشكالية: ما الوسائل التي يتوسل بها الكاتب لتقديم شخصياته النسائية تقديما مقنعًا لا افتعال فيه، ولا تصنُّع. 

المكان والزمان

تبعا لذلك نجد المؤلفة تحاول الإجابة عن أسئلة المكان، والزمان، وعن سؤال اللغة، فضلا عما سبق. ولا تفوتها الإشارة إلى الرمز في الرواية. على أن هذا، على الرغم مما فيه من وجاهة، وسداد نظر، إلا أنها كغيرها من النَقَدَةِ تكرر مفاهيم خاطئة عن علاقة المكان بالرواية. فهي تكرر في مواضع متفرقة أن المكان " يعكس (كذا) حقيقة الشخصيَّة" (ص59) وهذا القول لا يمكن القبول به، فثمة شخصيتان تعيشان في مكان واحد؛ إحداهما نموذج الإنسان الشرير والأخرى نموذج الطيب الخير غير الشرير، فعلى أي الأسس يمكننا أن نفسر حقيقة كل منهما بتأثير المكان نفسه؟ فإما أن تكون المقولة غير صحيحة على الإطلاق، وإما أن يكون وصف الشخصيتين بأنهما مختلفتان هو الخطأ المطلق. وهذا شيء يأباه العقل والمنطق. وعلى الرغم من أن المؤلفة تحاول أن تقدم لنا أمثلة مقتبسة من رواية " بقايا صور " لتأكيد ما تراه من أن المكان يكشف عن خفايا الشخصية، إلا أنها عدلت عن ذلك لتتحدث عن الزمن، وأن تأثيره في المرأة كتأثير المكان " مثلما لعب الزمن دوره نفسه " وهذا ضربٌ بعيد من الظنّ. لأن الدور أو الأثر الذي يتركه الزمن في الأشخاص لا يمكن أن يكون مماثلا لدور المكان؛ فالزمن كفيل بجعل الطفل شيخًا، ولكن المكان لا أثر له في هذا، لا من بعيد، ولا من قريب. على أن المؤلفة لا تخالف الصواب بقولها: إنَّ الكاتب الروائي بوصفه لمكانٍ ما، في الرواية- لصيقٍ بالشخصيَّة- إنما مراده من ذلك أن يجعل من ذلك المكان علامة من العلامات التي تشير إلى شيءٍ في هذا الشخص، أو ذاك، ودوره. ففي بقايا صور ينمُّ ضيق المنزل، وعتمته، وسقفه المقبَّب المستطيل المعقود بالحجارة مثل قبو، عن شعور من يقيمون فيه بالضيق، والتعاسة. فشعور إحدى الشخصيات بالغثيان، والاشمئزاز، أو الخوف، من وجودها في مكان معين، يؤثر في دورها الذي عهد به الراوي لها.أما حديث المؤلفة عن الزمن فقد تجاوزت فيه الصيغة السردية المعتادة إلى الحديث عن التداعي، وعن الاسترجاع الذي يعود بالقارئ إلى ما قبل بدء الأحداث في الحكاية. تلك الحكاية التي هي مادة الرواية على نحو ما نرى في رواية الشراع والعاصفة. وقد أحسنت المؤلفة إذ اهتمت في هذا الكتاب بالحديث عن لغة الرواية، وذلك شيءٌ لطالما غفل الكثير من دارسي الرواية عنه. ولكنها تقول في مقدمة الحديث عن اللغة ما يأتي :" يمكننا القول إن هناك أسلوبين لبناء العالم اللغوي للرواية هما السرد والحوار اللذان يرتبطان ارتباطا عضويا بالبناء العام للرواية". ص71 

وهذا تحديد نظنه غير دقيق. إذ تقتصر فيه على السرد والحوار دون الوصف. ولكل منهما وظائف عدة، ليس هذا هو المجال المناسب للحديث عنها تفصيلا، أو إيجازا. وقد عثرت المؤلفة – للأسف – على ما يصرفها عن التحديق في اللغة، فأفرطت في الحديث عن نوعي الحوار الداخلي (المونولوجي)، والخارجي (الديالوجي)، وخلطت كلا منهما بالحديث عن رسم الشخصيات، وعن الأسلوب الذي يستخدمه حنا مينة في تكوين شخصياته، وطبيعة اللغة المستخدمة في إطار من الحديث عن الازدواجية في الحوار؛ بين العامية، والفصحى. وهذا، وإن كان له تأثيره في إضفاء بعض الصفات المشخِّصة لأبطال الرواية ,إلا أن المؤلفة تنفي أن يكون للحوار الخارجي أثره في الكشف عن عالم الشخصية الخفي. وقد وقعت جراء ذلك في تناقض عندما ذكرت أن الحوار بين (مريم السودا) وبعض الشخصيات في رواية المصابيح الزرق حوارٌ يكشف عن أنها امرأة جاهلة تعيش في حي فقير، وهو حوار يصور مستواها الاجتماعي، ويفصح عما تتصف به من طباع كالجرأة، والاستعداد للعراك ، وهو أيضا حوارٌ يكشفُ عن المستوى الثقافي للشخوص(ص73). وكانت قد ذكرت من قبل أن الكاتب أخفق في تصويره لشخصية (مريم السودا) لاعتماده على الحوار الخارجي، مؤكدة أن هذا النوع من الحوار لا يستطيع أن يميط اللثام عن الشخصية، والإفصاح عن نفسيتها (ص72). فما بين صفحة وأخرى من الكتاب تغير الحكم تغييرا كبيرا، من غير أسباب ولا قرائن. 

اللغة

على أن المؤلفة في تناولها للغة الرواية تظن نفسها تتحدث عن الشعر ، ففي بعض المواضع تصف ما يقوله الفتى في رواية بقايا صور باللغة الحزينة. وفي موضع آخر تتحدث عن الحقول الدلالية حديث من لا دراية له بهذه النظرية اللسانية. وهي تعني بهذا المفهوم استعمال الروائي ألفاظا تناسب الموقف الذي يريد تصويره. وهذا تعقيب غريب لأن الحقول الدلالية – فيما نعرفه- ظاهرة معجمية تقوم على البحث في الكلمات التي ترتبط بعلاقة معجمية مشتركة وهي استخدامها في سياق دلالي معين كتواتر كلمات مثل زورق، مركب، شراع، سفن، شبكة، صياد، سمك، لؤلؤ، محار، صدف إلخ...في سياق الحديث عن البحر. 

ولم يفت المؤلفة التنبيه على ظهور نماذج من الأقوال، والمأثورات الشعبية، في روايات الكاتب، مما حتم عليه أن يستعمل اللهجة الدارجة، بل اللغة العامية ذات الصياغات الفنية المحكمة، مثلما هي الحال في الأغاني، والمواويل، والأمثال، وهذا يتجلى بصفة ملحوظة في روايتيه؛ بقايا صور، والقطاف .

خلاصات

ومثلما هي العادة لا بد من فِصْلةٍ تضاف إلى ما سبق تكشف كشفا واضحًا عن مغزى هذه الدراسة، والنتائج التي يتمخَّض عنها البحث. لذا نرى في الفصل الثاني مبحثًا بعنوان المرأة بين الشخصية الإنسانية والنموذج. فتستأنف النظر في تصنيفها السابق لنساء الكاتب، فبعضهن نموذج للأمومة المكافحة، وبعضهن نموذج للسلبية. وهذا لا يقتصر على الأم، بل ينسحب على الأرملة، والأخت، والحبيبة، والابنة، وحتى على المومس. وعقبت على ذلك بفصلة عن المرأة الثورية، وعن المرأة بين الواقع والرمز, فبعض نساء الكاتب ترمز للمرأة الثورية التي تسعى للتغيير، وبعض هاتيك النساء ترمز للجهل والسلبية، ومريم السودا ترمز للتفاني في المصابيح الزرق. وامرأة القبو في رواية الشمس في يوم غائم ترمز للمواجهة، والمجابهة، والممارسة الفعالة ضد الفقر، والجهل، والتخلف (ص97) والمزاوجة بين البعدين الرمزي والواقعي في رأيها تتكرر في غير رواية من رواياته. ومن نسائه من ترمز للوطنية التي تتجاذبها ثلاث قوى، هي: الشعب، والبورجوازية، وأخيرًا القوى الأجنبية. وخير من تمثل هذا النموذج كاترين في روايته حكاية بحار(ص99). 

صفوة القول أن هذاالكتاب – على صغره – 102 ص، وعلى قِدَم تأليفه، واقتصارهِ على دراسة الروايات من 1960 إلى 1993 كتابٌ فيه ما يلفتُ الانتباه، ويجذب الأنظار، لعطاء هذا الكاتب المدْرار، لا سيما في هذا الوقت الذي فقدناه فيه، بعد أن أغنى المكتبة الروائية العربية بعشرات الأعمال الجيدة، التي كانت، وما تزال، محط أنظار الدارسين، ومنتجعًا طيبًا مُمْرعا للنقادِ والباحثين.

 

(الكتاب من منشورات نور للنشر ، ط1، 2017.)
المصدر: صحيفة قاب قوسين