تناسخ أرواح

"مجلة جنى" جلس في مقعد وثير بالدرجة الأولى للطائرة التي انفردت بتخصيص رحلاتها لرجال الأعمال والأقليات الأرستقراطية، شعر بالراحة وهو يسند رأسه الى الخلف وكأنه داخل صالون تدليك. الرطوبة معتدلة والنظافة ملموسة ودرجة الاهتمام تستعرضها المضيفات الجميلات بحديثهن الى المسافرين كل لحظة باللغة الانجليزية الأنيقة.

نظر من النافذة الضيقة ، رأى الطائرة تمتد في الابتعاد عن أبراج المدينة محلقة في الفضاء، وانتابه شعور فرح مميز وكأنه كائن أسطوري يطير بجناحيه،لا بجناحي الطائرة ،أدرك نعمة تحرره من عبودية العمل واسترقاق رجال الأعمال.

مضى على مغادرته البلاد سبع سنوات تعلم فيها الكثير وجمع من المال الحظ الوفير،تطفو على ذاكرته صور متكاثفة كزبد البحر ، فيتذكر أصدقاءه الخمسة ومسقط رأسه زاوية الشيخ ببني ملال، ويطرق النظر في حذائه الجديد الذي اقتناه منذ أسبوعين من احدى العلامات الايطالية "فابيانو ريتشي" .

 يستمتع بالنغم الذي تحدثه نقراته الخفيفة، وهي تعزف لحن الانتصار الكبير على تلك المسافات التي كان يقطعها ذهابا ومجيئا ،طمعا في حضور حصص الدرس الراكض أمامه ..... 

يتذكر كيف حضر ذات يوم الى الفصل وكأنه خارج من القبر والأتربة والأشواك عالقة بجميع ملابسه والدم يسيل من فمه. حينما تبعته كلاب أحد الدواوير التي مر بها في رحلته اليومية. حيث حاصرته داخل "جنان" من التين البري.

ارتسمت على شفتيه المكتنزتين ابتسامات سخرية مريرة خفف حدتها بشربه لعصير قُدّم بنية تلطيف الأجواء.. 

نزل من الرحلة التي انشطرت بين مرحلتين. تنفس عطر أرض الوطن، مزيج من الثلج والنار،انهزام وانتصار،حب ،قدر واختيار. انه دهاء المتناقضات المتتاليات صدا وهجرانا.بدأت خطواته الحثيثة تتضاعف حتى خيل اليه انه استبدل المشي بالجري اتفاقا.

بعد تخليص معاملات العبور ، وقف مستعجلا  ينتظر حقائبه عند المعبر الجمركي، دنت منه فتاة في أواسط العشرينات، رمقته بنظرات مريبة وأرسلت الحديث.أنت تاجر تهريب . ساعات وعطور وهواتف ذكية.

امتعض وانكمشت أساريره فعلق قائلا أغدق على عائلتي.... أتمانعون ذلك؟

تحركت شفتاها تبتسم في حذر اعلانا بقرب الدخول في مغامرة تحين الفرص وصيد أثمن الرخص، ثم قالت. يلزمك تأدية المبلغ المالي التالي والا سنضطر لحجز ما يلي.. 

أجال النظر في تقاسيم وجهها البريء، تشبهها تماما "نادية"الحب القديم، الذي اغتاله وحش المنية حينما أنشبت السرعة أظفارها الطويلة على الطريق كوحش أسير يشتهي الدماء.

فقد هاتفوه ذات ليلة ليخبروه عن سفر زهر الربيع الذي كان في أوائل تفتحه، توفيت حبيبته في حادثة سير بين مدينة خنيفرة وبني ملال ،ومنذ ذلك الحين أدمن سباق الفورميلا وأصبح أحد أبطالها.أصبح ينتقم لحبه العذري بالعبور السريع للمسافات  بسرقة الثواني من الساعات..

ظل شاردا لحين، ثم انبعث في الأرجاء حديث وصراخ ممزوجان باشمئزاز من تفاهة الموقف.

تدخل قائلا.لن تأخذوا أي شيء ولن أدفع درهما واحدا، أريد رؤية رئيسكم،أهكذا تعاملون من يعود الى حضن الوطن بعد غربة سبع سنوات؟

انقشعت في الأفق المشحون بارقة انهاء عاجل للموقف السخيف بأمر من الرئيس الذي كان يراقب الموقف عن كثب، شعر بخيبة انهزامية خططه الرامية الى الظفر الثمين، فلم يصطد فئرانه شيئا،ثم طفقوا يجمعون أغراضه ويضعونها في الحقائب، التفت للحظة الى الفتاة أخذ قنينة عطر ووضعها بيدها، تراجعت الى الوراء وأردفت . الرئيس أمرنا بارجاع كل شيء ، فقاطعها قائلا: هدية لك. شكرته وتأهبت للانصراف البطيء ، قاطعها . اشكري الشبه القائم بينكما....

عض على شفتيه كمن يتأسف على ضياع عقد ثمين في زحام حفلة عشوائية، لقد كان حلمه بريئأ ، حين قرر ذات يوم اهداءها قنينة عطر، لكن عسر الحال و مذاق العلقم والمحال أقبرا حلمه ، ففضل المسكين اقتناء خاتم نحاسي بعشرة دراهم تعويضا عن حالة العوز القاسية.

تداعت الافكار الى راسه المحشوة بصور الماضي البعيد، واصل المسير للخروج عبر البوابة للبحث عن سيارة أجرة وكان يحدث نفسه؛ ربما تناسخ أرواح قائم، أما نادية فقد غادرتني دون عتاب لائم، بعويل الآهات والمآثم.

ميلودة عكرودي: كاتبة  من المغرب
المصدر: قاب قوسين

اقرأ أيضا