بوتشلّي... الضرير الذي لون العالم بأحبال صوته

باع أكثر من 80 مليون أسطوانة منذ مطلع هذا القرن فقط

"مجلة جنى" «موسيقى الصمت»، هو عنوان الكتاب الذي وضعه مغنّي التينور الإيطالي الشهير آندريا بوتشلّي عن سيرته الذاتية، والذي استند إليه المخرج البريطاني المقيم في إيطاليا مايكل رادفورد، لتصوير فيلمه عن حياة هذا الفنّان العالمي الذي فقد بصره كليّاً وهو ما زال في الثانية عشرة من عمره.

كثيرون حاولوا إقناع بوتشلّي بالعدول عن مسعاه لتعلّم الغناء الأوبرالي الذي كان يراوده حلماً منذ صغره، عندما كان يستمع إلى كبار النجوم الإيطاليين، مثل كاروسّو وبافاروتي. ويقول إنه كاد أن يقتنع مرّة عندما أكّد له مدير النادي الليلي الذي كان يعزف فيه على البيانو أنه «لن يُكتب له أبداً أن يصير مطرباً»، وهو الذي أصبح أحد أشهر المطربين الغنائيين في العالم، وباع أكثر من 80 مليون أسطوانة منذ مطلع هذا القرن فقط.
سيرة بوتشلّي أسَرَت رادفورد منذ المطالعة الأولى، وقال إنه لم يتردد في القبول عندما عُرض عليه تصوير فيلم عن حياة هذا المطرب الضرير الذي يتهافت الملايين على سماعه في كل أنحاء العالم، «علماً بأني لا أصوّر أفلاماً عن حياة المشاهير الذين ما زالوا على قيد الحياة».

كان آندريا، المولود في قرية لاجاتيكو من أعمال إقليم توسكانة عام 1958، يعاني من مرض الغلوكوما (المياه الزرقاء) الوراثي منذ أن شهد النور. وعند بلوغه الثانية عشرة فقد بصره نهائياً، فأرسلته أسرته إلى إحدى المدارس المخصصة للمكفوفين؛ حيث تميّز ليس فقط بمثابرته واجتهاده لتعلّم القراءة حسب طريقة «برايل»؛ بل بعزمه اللافت على تجاوز إعاقته والتصرّف بشكل طبيعي في كل مناحي الحياة.

ويركّز الفيلم على جانب مهم من شخصية بوتشلّي: الإيمان، الذي يصفه بالحصن المنيع الذي لا تقوى عليه العواصف، ويضيف: «نحن ما يريد الخالق لنا أن نكون. كلّنا نولد بفضائل وعيوب، ولا مكان للصدفة في هذه الدنيا». ويذكر آندريا كيف جذبه عالم الموسيقى للمرة الأولى في حياته، عندما كان في الثالثة من عمره برفقة والده في غرفة بأحد المشافي في مدينة تورينو، وسمع أغنية أوبرالية كانت تنبعث من غرفة مجاورة لمريض روسي، كان يدندنها خلال المقاطع المقصورة على الموسيقى.
ومن الأدلة على قوة عزيمة بوتشلّي وممارسة حياته بشكل طبيعي رغم فقدانه البصر، استمراره في العزف على البيانو ومزاولة رياضة الفروسية في مزرعته الجميلة بتوسكانة. وها هو اليوم يغنّي إلى جانب ابنه ماتّيو الذي يسير في خطى أبيه، ويقول: «صوته يختلف عن صوتي كثيراً؛ لكنه يشبهني من حيث أسلوبه في استخدام الصوت كوسيلة للتواصل والمخاطبة، وهذا ما يجعلنا قريبَين».

يعترف بوتشلّي بأنه في البداية تألم كثيراً لرفض كبار مطربي الأوبرا العالميين اعتباره مطرباً أوبراليّاً، رغم الشهرة الواسعة التي حققها من وراء غنائه لبعض المقاطع الأوبرالية المعروفة. ويقول إن رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق سيلفيو برلوسكوني عرض عليه مرة أن يغنّيا سوياً؛ لكن الفكرة لم تتحقق. والمعروف أن برلوسكوني بدأ يكسب رزقه كمطرب على متن إحدى البواخر السياحية التي كانت تجوب البحر المتوسط في فصل الصيف، يرافقه صديق يعزف على القيثارة ما زال يشرف على بعض أعماله إلى اليوم.