الكاتبة الايرلندية آنا بيرنز: أنأى بنفسي عن الاضطرابات

"مجلة جنى" هناك منعطف في فن القصة والرواية في شمال البلاد.  غنى في الأحاسيس، وانسجام الخيال مع البوصلة الأخلاقية وتحديد لاتجاهها. وبالإضافة لبحث دؤوب عن التجارب الجيدة التي تستحق المتابعة. فأدباء مثل  ويندي إرسكين ومايكل هيوز يقومون بدور مهم قلما عرفناه سابقا في شرح وتفسير الموضوعات. ويمكن أن نذكر هنا تجربة  الرسام ديرموت سيمور، وأسلوبه الطليعي الذي سبق به غيره ورؤيته للمضحك والمبكي  والعلاقة بينهما بما يزيد من جماليات ألغاز الحياة. وتعتبر آنا بيرنز واحدة من حلقة محدودة العدد، وذات رؤيا وثقافة عالية. فهي كاتبة حازت على المان بوكر بروايتها "بائع الحليب". والتحقت فورا بالنخبة. وحينما سئلت بيرنز عن سنواتها الأولى في بلفاست ولماذا هي غير معروفة، فكرت بالسؤال وردت بطريقة مبتكرة. وبدأت من العودة إلى البيت ليلا على طول شارع بيرويك في أردويان، وهي تتصور أن هذا كان يحدث في منتصف السبعينات، و تكون تحت تأثير الكحول ومخدرة ومعها رواية الجيب التي تقرأ فيها. وكما هو الراوي في "بائع الحليب"، كانت بيرنز تقرأ وهي تمشي.  تقول: "معظم الأنوار كانت مكسورة والطريق مظلم لكن الكتاب جيد. في مكان ما قرأت شيئا وجمدت من الدهشة والتحير. وأتذكر أنني قلت لنفسي: كيف فعل الكاتب هذا.. كيف؟".

كانت تقرأ في أيام بلفاست لكنها لم تكن  تكتب. وتكلمت عن محاولة في أيام الطفولة لكتابة "أنيد بلايتون يقابل أغاثا كريستي وهي تقابل حكاية خرافية روسية". إنها ما يشبه كتابا. كأن طفلا يضبط الإيقاع لمرحلة البلوغ، والتورط بالمهنة عن مقربة. ثم سافرت بيرنز إلى لندن عام 1987 للدراسة الجامعية. وفي منتصف عقدها الثالث "بدأت بالكتابة فجأة، وبسرعة... كنت أشعر بشيء يحل على رأسي قبل أن يتضح، وسيتحول لشيء مبهج أستمتع بالعمل عليه، أو الحياة معه، أو امتلاكه".

الفورة العصبية

يأتي الشعور بالكتابة بشكل فورة عصبية، تندلع نار الفكرة، وتتشكل المفاصل بسرعة البرق، وتبدأ تعرجات فاتنة بالظهور في مجال رؤية الكاتب. بلفاست بالنسبة لبيرنز ليست مثل أي مكان آخر. إنها مسروقة منها وتعيد ابتكارها، ويحل محلها شيء آخر. ثم تشتعل أسباب المشكلة، أو الطائفية، في المخيلة. "حان الوقت للتفكير وللإحساس بحياتي العملية...يجب أن أحتفظ بمسافة عن الاضطرابات، ولا أعتقد أنه  من غير العادي للأفراد أن يعيشوا تفاصيل المأساة. حينما تكون متورطا، لا يمكنك رؤية المآسي، وليس بوسعك أن تراها لأنك لا تريد ذلك".

نجح الكتابان السابقان- "بلا عظام"، و"منشآت جديدة". الأول وصل للقائمة القصيرة في جائزة أورانج. لم يكن خارج مجال الرادار. ربما حين تتكلم عن الكتابة من بلفاست، تكون في الرادر، داخل اهتمام الباحث عن أشياء غريبة وبعيدة، مثل الصياد الذي يلتقط كل ما يتحرك ويستتر في الظلام. لكن في "بائع الحليب" الأشخاص دون أسماء. ويحملون ألقابا تحدد العلاقات بين بعضهم بعضا. (مثلا: ربما صديق حميم)، أو تحدد موقع الشخص ومساره في المجتمع. (مثلا، الرجل الذي لا يحب أحدا، أو فتيات خدمة الطاولة). إتقان هذا الأسلوب يتطلب فهما أخلاقيا، وقد كان لديها إلمام بذلك. فالعقل نشيط وقلق، ولا يرتاح للأمور السهلة. والتفكير بأي صوت يثير التأمل في طبيعة الشخصية.

"شخصياتي تأتي لي وتخبرني بذاتها عما تريد أن تقول وكيف يقال، ويبدو أنني لا أملك سيطرة كاملة على الموضوع باستثناء أنني إما أسجل ما يقولونه أو أغض النظر عنه. (إن لم أكتب شخصياتي، لا تنتظرني تلك الشخصيات وأضطر للانصراف بعدها)".

الترميز

كتب النقاد عن كتابها الأول "بلا عظام"، إنها وظفت مشاكل العائلة كرمز للحالة السياسية في شمال إيرلندا:"في ذهني كان وما زال الموضوع مقلوبا. لا يوجد شيء لا يمكنني استبعاده من شمال ايرلندا. من الجنون أن تترك أي شيء دون دراسة أو أن تفكر أن أي شيء ليس له عواقب. وفي الوقت نفسه بالنسبة لي، لم يكن ذلك هو الهدف الأساسي. لكن العائلة هي هدفي. العائلة ليست موضوعا عابرا. تأثير العنف على العقل يمكن أن يحدث في أي مكان. وهذه الظروف يمكن أن يكون لها أيضا تداعيات نفسية وعقلية بعد اندلاع أي نوع من أنواع العنف".

وذلك يصدق على كتابها الثاني "منشآت صغيرة". " وهو برأيي ليس عما يعصف بأي مؤسسة عسكرية في شمال إيرلندا، أو عن أي مشكلة، أو أي إدارة حكومية في أي منطقة... إنه عن الجنون الأهلي وتضارب أفراد العائلة وما يبدر عن القائد الأحمق لعصابات الإجرام. ويمكن أن تكون أي عصابة إجرامية. وماذا يمكن لضمائرهم أن تفعل تجاه ما يحدث جهارا مع أنهم يتظاهرون بعدم ملاحظة ذلك؟".

وبالطريقة  نفسها التي تتحول بها الاضطرابات، تبدو أقل مما نعزو لها من أهمية، وتأخذ شكل خريطة للمهووسين. إنها تتكلم عن "محمية صغيرة للمراقبة". وكما تقول بيرنز: "إذا فكرنا بالطريقة التي نمثل بها أنفسنا سنعتقد أن الصحوة الواعية واللاوعية (بمعنى المراقبة والحراسة) – أو سواها من طرق اليقظة غير التقليدية – كما هو حال الأقمار الصناعية وأجهزة الإنذار المبكر وكاميرات المراقبة وسواها – طرق طبيعية للحياة. حسنا، ربما أصبحت معروفة لكنها قطعا ليست شيئا طبيعيا. وهنا تبدأ الضرورة كي تعلم – وربما كي تشعر".

المتابعون

رنت الكلمة في رأسي. اليقظة غير التقليدية. كيف ينفصل الناس عن وعيهم ويتحولون لمتابعين يراقبون انكماش أرواحهم؟. الموضوع أكبر من ذلك. أصبحت بلفاست مجتمعا يجد نفسه في حالة اضطراب وعدم يقين. قالت بيرنز: الاضطرابات، ليست مجرد اضطرابات. وأشارت للصمت الذي أعقب كلامها مع صحفيين إنجليز عن الحادث الوارد في "بلا عظام" والذي وقع فعلا في آيسلينغتون، وهي منطقة سكنية مضطربة. "أستطيع أن أرى أنه جاء مباشرة من بلفاست في السبعينات". ورأت أن الصمت يدل على الشك:"قلق اجتماعي – ناجم عن مجتمعك أو مجتمع غيرك – أليس هذا غريبا؟". 

كتاب آنا بيرنز كان عن حادثة خيالية تحبس الأنفاس وانجذب القراء نحوها. فلشخصياتها وجود حقيقي. يخرجون ويعودون بدافع شخصي. وعن كتابها الثالث (تقول عنه إنه "كتابها الثالث فعلا)، تأتي الشخصيات "وتقدم تقريبا نفسها وحكايتها لي .. ثم ينصرفون مع وعد "بالعودة لاحقا". لكنهم لم يعودوا بعد. "فقد ظهر آخرون. بعضهم نجح بالمرور إلى (بائع الحليب).. "أعلم أنه لا علاقة لهم بالرواية الثالثة. وليس عندي شك أنهم أخبروني بأنفسهم أنهم بلا أي علاقة".

غير المرئي

الشخصيات حاضرة ونشيطة، وهي المحركة والصانعة لعالمها الخاص، وهكذا هي الروايات – "الروايات نفسها لا تحب الكثير من الوصف الفيزيائي حينما تصل للكتابة النهائية". وهذا يقودنا إلى مدى إهمال من بقي في الخلف، لكنه يصارع ليشق طريقه إلى النص وكتابته. "في كثير من الأوقات أقرأ كتبا ويمكنني القسم أن فيها مصابيح جميلة دافئة تلمع في الزاوية، أو  توجد سلالم مرتكزة على الجدار لسبب ما، أو أن النافذة مفتوحة والقفل يصلصل لسبب ما".  وهذا يقودنا للتفكير بما تبقى. هل هو وصف تفكر الكاتبة بإضافته لكنها لا تفعل. أم أن "هذه المرئيات غير الموجودة هي جزء من غرفة الكتابة الحقيقية التي تعيش فيها الكاتبة، بينما القارئ يعيش واقعا موازيا؟".

إن كتابة بيرنز لهذه المقاطع المعقدة بمضمونها النفسي تبدو غريبة وملحة. فالتعاطف يأتي مع الخبرات الحقيقية. ومع ذلك تصل لإحساس أنه بإمكانك الحديث عن كتابة بيرنز فهي تتدفق من اتجاهات غير متوقعة. 

"عموما، يسعدني أن يأتي القراء ويحصلوا على ما يتمنون من الرواية – ضمنا روايتي. في النهاية، هذا ما أفعل كقارئة".

أنت تعود لمراهقة تقف تحت عمود النور في أردويان في السبعينات. والبنت في الظلام تزيل القناع عن فكرة الكتابة. "في تلك اللحظة، وفي منتصف الليل،هي واقفة في هذا الطريق. وقد احترمت هذه الإنسانة المجهولة التي لا أعرفها جيدا – والتي ستصبح كاتبة".

المصدر: قاب قوسين