«أسبوع لندن» لخريف وشتاء 2019... بين الموضة الإيجابية والثورات الشبابية

المصممون أبدعوا بتبنيهم القضايا الإنسانية وتنوع مقاسات ومفاهيم الجمال

"مجلة جنى" يبدو أن صناع الموضة تعبوا من الحديث عن «بريكست»... على الأقل أدركوا أن الأمر قد خرج من أيديهم في هذه المرحلة. ولأن الابتكار والتجديد هو شُغلهم الأول، كان أيضاً شاغلهم هذا الموسم، حيث تركوا السياسة للساسة ووجهوا أنظارهم إلى قضايا جديدة، مثل حماية الأرض من التلوث، والمناداة بالاحتفال بالتنوع بكل أشكاله، والمناداة بحرية أكبر للتعبير عن الذات.

يوم الأحد الماضي مثلا؛ تعطلت حركة السير في بعض المناطق بسبب مظاهرة قد لا تكون لها علاقة بالموضة، لكن المنظمين استغلوا المناسبة لجذب مزيد من الاهتمام إلى قضيتهم. احتلوا 5 جسور على نهر التيمس، وهم يلبسون أفضل ما عندهم من ملابس «وكأنهم يحضرون جنازة أنيقة» حسب قولهم. قضيتهم هي الاحتجاج على سياسة الحكومة تجاه التغير المناخي والأزمة البيئية. ورغم أنه لا أحد من المتظاهرين يلوم منظمة الموضة على هذه الأزمة، فإنهم يرون أنها لها يداً في بعض تأثيراتها السلبية، كما بيدها أن تقدم حلولاً لها.

من جهتها، تؤكد «المنظمة البريطانية للموضة»، ومنذ بضع سنوات، أنها جادة في محاولاتها لأن تكون سباقة في تطوير الموضة وجعلها «خضراء» ومستدامة. من هذا المنظور، رفعت هذا الموسم شعار «الموضة الإيجابية» الذي تداولته كل وسائل التواصل الاجتماعي. هذه الموضة لم تقتصر على عروض الأزياء الرسمية والفعاليات الهامشية، بل أيضا على ما كان يجري في الشوارع خارج العروض. غابت صورة «الطواويس» التي كنا نراها في المواسم الماضية، مثلا، كذلك الغرابة التي كانت تستهدف لفت الأنظار وإحداث الصدمة أولا وأخيرا. غابت أيضا المظاهرات التي كان يقوم بها المناهضون لاستعمال الفرو الطبيعي لأن المنظمة سدت عليهم هذا الطريق، بعد أن أعلنت في الموسم الماضي، ولأول مرة منذ تأسيسها، منع استعمال الفرو الطبيعي في عروضها الرسمية. محل هذه الغيابات ظهرت حركة تمرد جديدة، يمكن تشبيهها بتلك التي عشناها في السبعينات من القرن الماضي، وكانت هي الأخرى تمردا على التابوهات والمتعارف عليه، وظهرت بالوتيرة نفسها محدثة تغييرات اجتماعية لا تزال ملموسة حتى الآن، حيث أثمرت موضة «البانكس» وموضة «الشارع».

لهذا لم يكن غريباً أن نتابع عروضاً ارتجالية في الشارع، ظهرت فيها عارضات عاديات جدا، إذا أخذنا بعين الاعتبار أحجامهن الكبيرة أو نحافتهن الزائدة وأطوالهن المتباينة، من بينهن مؤثرات معروفات، رفعن لافتات كتبن عليها شعارات مثل: «يجب على الموضة تمكيننا وليس العكس» أو «جمالنا يتعدى المقاييس» وما شابه.

لكن وبما أننا في لندن، العاصمة التي تُفرخ المواهب والأفكار المبتكرة، فكان لا بد من أن يكون شعار «الموضة الإيجابية»، الذي رفعته وتبنته المنظمة ملموسا وليس مجرد تنظير. قد يتساءل البعض؛ ما علاقة ما يقدمه المصممون بالمنظمة، أَفَلَيْست لهم حرية الإبداع؟ والجواب أنها لا تتدخل في عملية الإبداع بقدر ما تُشرف على زيادة الوعي لدى المصممين الصاعدين تحديدا، بأهمية بعض القضايا الاجتماعية، على رأسها الموضة المستدامة، من خلال برامج تهدف إلى دعمهم لوجيستياً ومادياً. وبالفعل أثمرت هذه المبادرات فعاليات عدة مهمة، مثل الحملة التي تعاونت فيها المصممة أيمي باوني، مؤسسة علامة «ماذر أوف بيرل» مع قناة «بي بي سي أورث» لزيادة التوعية بأهمية الحفاظ على البيئة، من خلال نقاشات ومداولات حول دور صناعة الموضة في إيقاف التلوث البلاستيكي والعمل على تغيير إيجابي وسُبل تحقيقه. الرسالة التي تؤمن بها كل من المصممة والقناة هي أن «الموضة لها تأثير قوي على العالم، وبالتالي بإمكانها نشر مزيد من التوعية لإيجاد حلول». المصممة باوني أطلقت أيضا خطأ مستداماً، انطلاقاً من إيمانها بأنه «بإمكاننا أن نتعلم دروساً قيمة مما يحدث، وليس هناك أي داعٍ لكي نبقى جامدين؛ نفكر ونتحدث عما حدث في الماضي فقط... علينا في المقابل أن نتحرك ونتعاون الآن باستعمال كل التقنيات الجديدة لإحداث هذا التغيير وتحسين الظروف».

لكن حتى بالنسبة لمن لم يرفعوا شعارات واضحة، فإن هذا الاتجاه كان ملحوظاً في كثير من العروض؛ الأمر الذي يؤكد أن لندن لا تزال العاصمة التي تنطلق منها الحركات الاجتماعية وتولد فيها الأفكار الرائدة، وهو ما يظهر جليا في الأزياء بكل تفاصيلها، من الخطوط والقصات، إلى نوعية الأقمشة وتقنياتها والطبعات الديجيتال التي برع فيها كثير من مصمميها وسوقوها إلى العالم. كانت هناك واقعية ملموسة هذا الموسم. فإلى عهد قريب، كنا قبل حضور أي عرض نُهيئ أنفسنا للمسة جنون. كنا نعرف مسبقا أننا سنحلق إلى عوالم من الخيال والفانتازيا. لكن شتان بين الأمس والحاضر.

فقد تغيرت الأمور في السنوات الأخيرة بسبب العولمة والمنافسة الشديدة في الاستحواذ على اهتمام الأسواق النامية. ولا يختلف اثنان على أن منظمة الموضة البريطانية لعبت دورا كبيرا في هذا التغيير. فرغم أنها لا تزال تشجع على الإبداع وتحرص عليه، كما لا تمانع في بعض الجنون ما دامت فيه فنون، فإنها تقوم بدورات تدريبية عدة تقدم فيها دروساً قيمة في فنون التسويق. فقد انتبهت إلى أن مصمميها، حين كانوا يتخرجون في معاهدها الشهيرة، مثل «سنترال سانت مارتن» و«لندن كوليدج أوف فاشون» وغيرهما في الماضي، كان حافزهم الأول والأخير هو التميز بأي شكل وبغض النظر عما إذا كانت التصاميم ستباع أم لا. هذا ما عملت على تصحيحه بترويضها بعض جنوحهم من دون أن تقص أجنحتهم تماما. لحسن الحظ أن المصممين استوعبوا الدرس، وهو ما لمسناه في كثير من العروض التي لا تزال تذكرنا بشخصية لندن الجانحة لبعض الغرابة، وبالتالي تجعلنا نعيش اللحظة بكل جمالياتها وفنونها، إلا إنها تتبنى أيضا الأناقة، بالشكل الذي تحلم به المرأة. وليس أدل على هذا مما قدمه كل من المصمم الشاب أساي وماركة «16أرلينغتون» في أول يوم من الأسبوع... الأول يخاطب الشباب بحداثته وعصريته، والثاني يخاطب النجوم والمشاهير بألوانه وتطريزاته الغنية. مساء اليوم نفسه قدمت المصممة آشلي ويليام، تشكيلة عكست نظرتها الشابة لبنات جيلها، من مثيلات أليكسا تشانغ ودايزي لو، ونيكولا روبرتس. ورغم أنه من الصعب القول إن الأزياء التي قدمتها ستُحدث ثورة في موضة الموسم المقبل، فإنها أنيقة ومفعمة بالحيوية. كانت بها لمسة «غرانج»، كما تلونت بدرجات النيون التي ظهرت في كثير من العروض الأخرى طوال الأسبوع، مثل الأصفر والبرتقالي والأخضر والأزرق... وغيرها من الدرجات الفاقعة. كانت هناك أيضا لمسة «إنجليزية» تجسدت في بعض الكنزات المفتوحة والقطع المطرزة بالترتر على شكل مربعات.

من جهته، استبق المصمم البريطاني المخضرم جاسبر كونران، الأحداث الإيجابية التي نادى بها المتظاهرون، فيما يتعلق بمطالبتهم بمراعاة التنوع والاحتفال بالمرأة بمقاساتها المختلفة، وبدل أن يقدم تشكيلة محددة على الجسم، تُبرز تضاريسه، فإنه أخفاها تحت خطوط واسعة لا تخلو من أناقة ولمسة بوهيمية محسوبة. والنتيجة أن ما كان في الماضي يعد عاديا، بدا في قمة الأنوثة من خلال فساتين منسدلة على الجسم، تؤكد أن الراحة من أهم التفاصيل التي أهملها المصممون في الماضي. والطريف أن المرأة لم تنتبه إلى أنها تفتقدها إلا مؤخرا وبعد أن اقترحوها عليها. الفضل طبعا يعود إلى الجيل الجديد، الذي لا يريد أن يتنازل عن أي شيء يخدمه؛ من الأناقة والراحة، إلى التميز. فساتين كثيرة ومتنوعة قدمها المصمم البريطاني المخضرم، كان القاسم المشترك بينها انسدالها على الجسم، وأيضا ألوانها الخريفية الهادئة، التي تباينت بين درجات الشوكولاته والبرتقال.

في المقابل، تبنى المصمم بورا أكسو خطوطا أكثر تحديدا على الجسم من دون أن ينسى عنصر الراحة، بدليل أن كل ما قدمه كان عبارة عن فساتين؛ كثير منها بكشاكش، قال إنه استلهمها من فالنتينا تيريشكوفا، أول امرأة تقوم برحلة إلى الفضاء في عام 1963. وجد المصمم أن قصتها مثيرة وملهمة في الوقت ذاته، لأنها تعكس قوة المرأة وقدرتها على مواجهة كل الصعوبات. فهي من أصول جد متواضعة؛ حيث كان أبوها مجرد عامل بسيط في مصنع نسيج، لهذا اضطرت إلى أن تترك المدرسة وهي في عمر 17 عاما لتعمل معه في المصنع، لكنها كانت تحلم بأكثر من هذا بكثير، لهذا صممت على أن تُكمل دراستها بالمراسلة. في عيد ميلادها الـ18 التحقت بناد نسائي للقفز بالمظلات، وكتبت طلبا إلى مركز الفضاء تعرض فيه خدماتها للعمل مع رواد الفضاء. تم قبولها رغم عدم إكمالها دراستها مقارنة بغيرها. نظرا لكفاءتها وصلابتها؛ اختيرت في يونيو (حزيران) من عام 1963 لقضاء 3 أيام في الفضاء. وبالفعل حامت مركبتها 48 مرة حول الأرض. بعدها درست الهندسة وتخرجت في عام 1969 لتصبح ناشطة نسوية من الوزن الثقيل. وهذا ما التقطه المصمم في تشكيلة تعكس رحلتها المكوكية من دون أن ينسى أصولها القروية. كان هناك مزج بين القديم والحديث، واستكشاف لخامات جديدة ومزج بين الألوان. فالدرجات الهادئة خلقت إطلالات تتسم بالغموض، بينما الدرجات المتوهجة القوة والإرادة. وجاءت الخلطة في النهاية مزيجا بين الأنوثة الناعمة من خلال التطريزات واستعماله الأورغانزا والتول، والثقة والقوة من خلال الخطوط المحددة والجريئة.

لكن لا بد من القول إن عرض ماري كاترانتزو كان أكبر مفاجأة، ولو أن كلمة مفاجأة ليست في محلها بالنظر إلى أن المصممة تُتحف عالم الموضة منذ أكثر من 10 سنوات بالفنية والاحترافية. تشكيلتها لخريف وشتاء 2019 لم تكن «لندنية» بقدر ما كانت «باريسية»، لسبب بسيط؛ هو أن كل قطعة فيها كانت تحاكي الـ«هوت كوتير»... كشاكش كثيرة وسخاء في استعمال الريش جعل العارضات يبدون كأنهن طيور الجنة.

رغم الأحجام الكبيرة والطبقات والكشاكش المتعددة وسخاء التطريزات، فإنه كانت هناك خفة تكاد تلمسها من مجرد النظر إليها. تفسير المصممة أنها تشكيلة مستوحاة «من الأرض... من الريح ومن النار» وبالفعل كل هذه العناصر كانت موجودة بأسلوب كاترانتزو الشاعري. فقد ترجمتها من خلال الخطوط والتقنيات والحركة، وليس أدل على ذلك من الفستان الأصفر الفاقع الذي افتتحت به العارضة نتاليا فوديانوفا العرض وتكوّن من كشاكش من العنق إلى الأرض... كان بخفة الريش، وظهرت فيه كأنها عصفور كناري، خصوصاً أنه أخفى نصف وجهها. كانت هناك قطع أخرى تم تطريزها بسخاء وذكاء بحيث لم تُخلف أي انطباع بالمبالغة بقدر ما أثارت الإعجاب لأنها أخذت أشكال ورود طبيعية. ما يُحسب لماري كاترانتزو أنها ليست مطالبة بتبرير أي شيء تقدمه... فهي امرأة، وتفهم ما تريده المرأة أيا كانت مقاييسها.