حَصاد أمي عُشبة تتسلق السماء..

شاهقة هي قامة الكلام هنا
وأنا الضئيلة جدًا في مرمى متشوّك بين نِدّين تُحكّم بينهما اللغة..

رهينةٌ أنا لشيمـي، وتتفرّس نزعاتي البشرية وصايا أمي وبصماتها منذ أن تمرّستُ التعابير ولوّنَتْها اللغة، أتسمّر في مكاني، أثبُت كشيءٍ تجري فيه الحياة ولا يتمدد إطلاقًا يقف متفرجًا وليس متبلدًا:

يحدث هذا فقط عندما أتصادم وجهًا لوجه مع الكينونة المُشوهة للإنسان، مع الصورة المهترئة لأية ذات، أتماهى مع سجيتي وقيمتي كإنسان يرفض تطويع لُغته فيما يُسمى برد الاعتبار، وإن كنتُ على حق!

بعض الأحداث لا يفضي التفوق فيها إلى شيء، بل الانهزام في مجرياتها يُعد انتصارًا في رأيي، وتغلّبًا على جزء في الذات وليس فقط على الطرف الآخر..
في نزوحي وشاية عن روضٍ تصب مياهه في عمق القلب، باعدني عن الانتهاكات والانفعالات الدونية،
اغترفت منه ما نوّلني التسامي، وإن لم أكن في حرز من المداهمات والتخبطات..

تتعرّق انفعالاتي أحيانًا خيفة انفجار، فتتوارى وتشحن فيها فضيلة الارتقاء، تفتش في العُمق عن وصايا ومواقف، فتحبو خارجًا وبوصلتها طيف أمي، يُرشدها للبعيد، يُحاذيها بسجيتها..

أدين لها هذا النضج، كانت تترصد انفعالاتي وتُسقطها أرضًا فنضحك من سُخف الأذى وأهله، ومع كل ضربة مدوية للسوء بفعلِ تأدُبها كنت أرتفع بروحي عاليًا، كنتُ أنتصر معها على نزعات الإنسان فيّ بوجوب رد الضربة والفوزُ في حرب كلامية مع كافة الشخوص بمستوياتهم المتدنية ذوقيًا، تغلبت في حِجر رُقيها على فطرة الغضب فيّ حتى استحال متجمدًا في جوفي كتماثيل الشمع، ينصهر بعضه ويُعاود التماسك!
رممتْ طيشي اندهاشاتي العظيمة بتأمل مواقفها مع الناس، فكانت لا ترتفع وحدها وإنما اجتذبت معها عدة أرواح منا..

أمي الطيبة، درويشة جدًا باعتبارات هذا الزمن، ولكني تطعّمت هذه الرقة كمثال أحذو حذوه نحو الرُقي وإن تعرّضت للعواقب، كبرتُ وبتّ لا أستعرض الأذى في حضرة أمي، استحياءً وخوفًا، ولكن بتّ أراجع تغذيتها في جوفي، فأتخبط بين التغالب والتباعد،

أتحرز في هذا العمر بنبعٍ في قلبي، هو تِركة أمي وعتادها،
وإن كانت اللغة غيمة ماطرة في قبضة يدي، فإني أغدو يباسًا منها عندما يتطاول في مداي ظل الكلمة السيئة، أتقلص لأصبح طفلًا تمجّده تهويدات أمه،
أتكور في شيمي ووجه أمي ووصاياها، أتشوّك في وجه الإلحاح الذي يحرض على الانفعال اللغوي، فتفرّ بسماحتي كل سوءة وترتد في وجه قائلها وهكذا..

لطالما حمتنا أخلاقياتنا وحوطتنا وصايا أمهاتنا في الوقت الذي لم نعد نقدر فيه على الاحتماء بهن علنًا، وعندما تلقّينا الأذى للمرة الأولى بعيدًا عن أكمام الأمهات حُمّلنا فداحة الاختيار ولولا أسربتنا ونحن نرتقي في حجر الأمهات، ولولا أن ضجت دواخلنا بأصداء الشعارات، ما كان بعضنا قد نفذ من غواية العين بالعين والسن بالسن، واستقر في مأمن من تدفق السوء.

بعد هذا العمر الذي لم نعد نتبادل فيه وأمهاتنا سوءات الناس فينا، خجلًا وخشية عليهن، ولأننا غدونا مُطعّمين بكافة الوصايا والإرشادات، وكبرنا والكلمة صارت لنا، والاختيار غدا منا، والقرار عوائده علينا؛ لن يضيع سدى ما طُعّمنا به، مهما تمايزت الشخصيات، سنخرج على الأقل بقاعدة نضج ملتحمة بركائز قديمة، وأنا كروح معجونة بمسيرة والدتها وطِباعها، فإن جُل تفسيراتي نُسخة متجددة من أخرى منابعها أمي..
أدين لها كل مبدأ، كل قناعة، كل قرار،
أدين لها وصولي لهذا التباعد عن اللغة فيما يُعنى بتدنيسها،
أدين لها قناعتي المبكرة بأن الصمت يغلب اللغة في حالات،
وأنه ليس ضعفًا، ليس احتكارًا قويًا يصعب الانفلات منه من الآخر، وليس شيئًا يُذكَر، وأن كل تلك الفلسفات التي تلاحق صمتك وتنحّيك مجردة من الأخلاقيات..

في النُضج نبتغي الارتقاء، نختر الصمت، نتباعد عن سفيه الكلام، نملك كل الخيارات ونعرف أشكال المواجهات ومحلها من الاعتبار، نفهم وجيدًا ماهية المتكلم، ولكن ما الفائدة؟

- ما الفائدة؟
هذا السؤال الذي بطّأ شرارة التعبير،
لطالما لاحقني أثناء العَدو المستميت بين السوءة وصاحبها: أصداءه الملطخة بنبرة أمي، وحده من شرًدني عن أروقة الكلام..

- أتسلق الصمت الذي يمنح الإنسان سلواه تجاه ماهيته واعتزازه تجاه منابته وبمعيتي حصاد أمي.

بقلم:: أروى الزهراني.