انثيالات.. أروى الزهراني

"مجلة جنى" على مشجب الأيام المتناسخة في أحداثها وطقوسنا فيها، تُعاني الروح من خلل، تتخبط في تذمر وامتعاض، وكأنها في غُربة وعذاب، تُحملق في جهات موازية للمكان والحالة والحدث، تُطالعها بحرقة وكأن اللقاء مستحيلًا، تجسد هيئة المنفي بكل تعابيره، لا تُحبذ الروح الحالمة ذاك الركود المزعج، يُهلكِها أن تحوم وتتخبط بلا خلاص وغايتها الأبدية أن تُحلق!..

تتحرى روحي منذ زمن الوقت الملائم للبوح، يتسيد هدوءها ويتجبّر ويأخذ منحى من يريد أن يعلن عن عاصفة،

شيءٌ ما إثر هذا الانتظار ينتهك سكوني،

يملأ المكان أوراقًا ويملأ الورق كلمات وحكايات،

وفي كل حكاية نشيج يتسلل للخارج ويفور في المكان منه هُتاف..


يقول بلزاك" الله وحده يعلم كيف تتطاحن التخيلات،

والشعر واليأس،والصراخ المختنق، والتجارب القليلة الفائدة ،

والأعمال الرائعة التي لم يتم إنجازها"


تغدو في الروح نزعة للإفصاح تتصاعد عندما نتشبع بما يصعب احتواؤه أكثر، وعندما نلتقي أشباهنا في الحلم والظروف، يُصبح إلحاح البوح ضاريًا يشبه شيئاً يُنذِر باندلاع ثورة، لا سيما مع وجود الأشباه وتكالب العقبات، تتراكم الأعطاب بشكلٍ جمعي لا يمكن تجميله وتهدئته، يعبث ببُنية الروح، يزلزلها فتظهر عذاباتها جلية على أغلفة الجسد:


حُطام أمنيات وطموحات وصل لأقصى تراكماته في الروح،

ومضات متفاوتة تُشع في الدرب يصعب تجاهلها،

أحداث مُلهِمة تُؤثث مدانا باليقظة وتشي ببوادر..


ندرك حينها أن البوح طارئاً أشد من كونه سلوك وحق،

وأن الروح لن تصمد طويلًا متوارية في عناء الصمت والحياة المكررة بتباطؤ دون أن تقبض على مرادها، أو أن تُلامس أسربة أحلامها ولو من بعيد!


تتقد ذواتنا وتشعر بضرورة للتعبير بشتى الطرق التي يمكن لروح سجينة أن تسلكها، بكل ما تملك من مقدرة ومقومات..


أهتِف كفطرة تتشكل في قوامها الدعامة الوحيدة في استمرارية روحـي، قد أستمر مطولًا كتجسيد لشيءٍ ما، وكحصيلة أمر ما، قد أستمد البقاء من رزمة عظام وهواء

ولكن بشأن روحـي هنالك ومضات، تنطوي عليها احتمالية بقاءي أو انهياري الشعوري، تحرضني مليًا لدفع كل الذي أحويه بكل ما أملك من طرائق، تمتمات- هتاف- نشيج- صلوات- كلمات، أدفعها بحميمية رغم فداحة كواليسها،

هذه الكلمات التي تفصل بينها وبين خلاصها مسافة عقبة كتلك التي بين الهاوية والنور...


إلى هُتافي تسللت هُتافات، عانقتُ فيها لذعة التوق للنور،

لم تهدأ أشجان المسيرة التي خاضتها أرواحنا ولا لحظة، كانت تفور فينا كلما زلّت أقدامنا عن الوصول إثر عقبة.


وأنا مُلطخة بأحداث مسيرتي قُدت حلمًا كهلًا في عدة أرواح نحو النور، فبكل ما تحمله ذواتنا من معاناة يُؤدبّ امتعاضها ويُسكّنه ذلك الوصول بسلام وبحميمية تجمع بين أرواحنا وزهو الصمود، يُحس الإنسان بفيض من القوة والسلوى والاعتزاز حين تكون يده ولو كانت مخلوعة مًتكأً آمِنًا لعدة أيدي في خلاص أحلامها برفقة أحلامه..


ألتقي بحُلمـي في ملامحهنّ والتقت أحلامهنّ بنضالي المستبد في سبيل الوصول، لم يكن النور مسألة حتمية، كان أَشبه بالمعجزة فيما يخص أحلامنا، وفي لحظة كُنا فيها نُنازل موبقات النفق وامتعاض ذواتنا وجدنا النور يُشعّ في أعيننا

أخذتُ بأيدينا نحوه وقد كانت تومض عند النهاية نهايتي!


كل هُتاف امتد لهتافي والتحـم به أُعدّه صفحة نقية في مسيرتي يتجلى فيها سمو الروح وخُلاصة الفضيلة، ومهما بلغت فظاعة الدرب وفداحة الصدمات تغدو لذة الإنجاز الجماعيّ لأرواح تشترك في حلم واحد بلسمًا وسلوى عن كل ما سبق، وسأظل دومًا أفتح أذرعتـي للطموحات المحبوسة، تلك التي يُشجر كهولتها البوح، سأمد يدي لعدة هُتافات بعد..


في لحظةٍ ما سيسبق صدى الهتاف نداءً لنا يبشر بالإنصات، إشارة تداوينا من وعثاء السفر، أذرُع شاهقة تمتد نحونا تلتقفنا ونشهد حرية أرواحنا للمرة الأولى ولن ننفك نُحلق بعدها..


لكل منا الحق في أن يقول ويفعل، لكل إنسان أحقية الحلم والشغف، وللأرواح خياراتها في الحياة، وخيار البوح بهذا الشكل الأدبي، من أسمى الخيارات التي لا يجب الوقوف في طريقها، يجب أن نهب الروح هذه الحرية عندما تستجدي فينا الخلاص، ليس بمقدورنا تزجية هذا الإلحاح من روح ترغب في سرد الكلمات ولديها طارئ البوح، فلنفسح المكان ولنبارك هذه النزعة.. وللهُتاف بقية.