معزوفة الشوق والعشق والحلم في ديوان : نبض من غياهب الصمت للشاعرة رجاء قيباش

بقلم الشاعر : عبد العزيز أبو شيار

حينما يتسرب الجمال والبهاء إلى قصائد نبض غياهب الصمت ، وحينما تكون نصوصها حبلى ببديع الصور ورشيق الكلمات وجميل العبارات، يجد القارئ المتذوق للشعر نفسه مشدودة إلى محاورة تلك القطع الفنية من أجل الاستماع إلى الأصوات المنبعثة من نبضها وقراراتها وارتشاف رحيق الجمال الكامن في أعماقها. يجد نفسه متوثبة للتعرف على تلك الروح المبدعة التي حركت الجمال واستفزت الخيال وتفننت في الرسم بالكلمات

لقد عشت هذه التجربة السياحية الشعرية الجميلة وذقت حلاوة القراءة ومتعتها وأنا أتجول في حدائقها الغنّاء وقد ازدانت جنباتها بأشعار متنوعة أبدعتها وسقتها شاعرية فنانة مسكونة بحب الجمال، عاشقة للكلمة الحالمة ومهووسة بحب المجاز العربي في امتداداته. شاعرة مرهفة الشعور تنسج قصائدها حبا وشعرا تتجاوز الحدود بخيالها الواسع، وتخترق المسافات بقلمها الأنيق المنساب جمالا، تلون الحياة بإبداعها الوديع تكتب بماء قلبها تذيب كل جبال البعد الفاصلة لتتيح للقلوب والأرواح كي تتصافح وتتعانق بكل محبة ومودة.عشت هذه التجربة القرائية الممتعة مع الشاعرة المتألقة رجاء قيباش من خلال ديوانها الثاني الذي وسمته بميسم : "نبض من غياهب الصمت " الصادر عام 2018 والذي جاء بعد ديوانها الأول : " صرخة قلب محتضر " الصادر عام 2015  تتحدى حدود اللغة المألوفة،وتتجاوز بالكلمة الشعرية الأمكنة ، مسافرة بخيالها عبر الأزمنة، وترتشف الجمال من كل الصور في هذا الكون البديع، وتعبّ منه إلى حد الثمالة ..شاعرة تشهد أشعارها على تألقها وموهبتها الشعرية، وهي آثار جديرة بالقراءة النقدية المسائلة لخبايا النصوص والكاشفة عن مكامن القوة والجمال فيها
وأول ما يلفت نظر القارئ، ولا نقول القارئ المتذوق أو الناقد هو طبيعة الانفعال الذي يوجه الشاعرة ويقف منطلقاً لهذه التجربة وينبوعاً تصدر عنه في كل منحنياتها وأبعادها وبنائها. وهي طبيعة تتسم بالشوق والحنين وهي طبيعة يمتزج فيها الممكن بالمستحيل والواقع بالحلم وتتحاور فيها  الذات والآخر

تعد الشاعرة رجاء قيباش من الأصوات الشعرية الأصيلة التي أمسكت بزمام قصيدة النثر وأعطت للكلمة الشعرية الفرصة كي تتفجر جمالا وروعة وإثارة. شاعرة تنتمي إلى النبض الجمالي ويصدر عن رؤية مبدعة تستوعب مادتها الشعرية وتضع كل الجسور الممكنة للعبور بين الأزمنة. اجتمعت فيه الشاعرية العاشقة للجمال والسابرة لأغوار الواقع والمتأملة في الوجود والإنسان والحياة ..

تنطلق هذه القراءة من عتبة العنوان التي تعد من أهم المناطق في تشكيل نسيج الإبداع الشعري. يستوقفنا العنوان كمنبه دال على ما يتضمنه المنتج الشعري، ويستدرجنا – من خلال حمولته الدلالية- نحو اعتقاد متسرع وانطباع ،وذلك حينما يدفعنا إلى إصدار أحكام مسبقة قد تكون بعيدة عن حقيقة المادة الشعرية، ولكن عتبة العنوان والولوج إلى الفضاء الشعري يدفع القارئ إلى استنباط دلالة رمزية التي تعكس المادة الشعرية، و تترجم تنوع المتن الذي يسكن بين دفتي الديوان.ومع ذلك فقد أصبح هذا العنوان مفتاحا سحريا لفعل القراءة،إذ لا يمكن اختراق حواجز وسدود هذا الديوان إلا بامتلاك ذلك المفتاح وتوظيفه كمنطلق لقراءة المادة الشعرية وكأداة للدخول إلى ثنايا النصوص ويكشف عن جانب من الرؤية الشعرية التي تحكمت في الممارسة الشعرية.ولهذا تصبح مشاركة القارئ التأويلية لهذا العنوان عملية ضرورية لدخول عالم الديوان المثير للإغراء .

إن بناء هذا العنوان : " نبض من غياهب الصمت بهذه الصيغة التركيبية من مبتدأ وخبر جاء شبه جملة نستشف منه أنه لا يسمع النبض إلا في حال الصمت فلا كلام بغير صمت والحياة بطبيعتها تقتضي هذين المتناقضين وما بين النبض والصمت مسافات قصائد تبوح بها الشاعرة رجاء قيباش وبهذه الحمولة الدلالية وبما لها من مقومات إيحائية وجمالية نابعة من رؤية تجعلها معادلا رمزيا للكتابة يلخص مدارات الديوان،حيث يصبح العنوان ذاته نصا إضافيا وموازيا للمنتج الشعري.فهو نص منفتح على تأويلات عدة منها  الحياة الإنسانية في شقها العاطفي الذي يرسم صورة حزينة لذات استبد بها الحنين والشوق الملون ببعض الخوف الناجم عن معترك الحياة ،وسكنتها هموم البوح عبر حنايا الروح وثنايا القصيدة

يحملنا العنوان إلى غياهب النفس الصامتة لكن صمتها سرعان ما يؤول إلى كلام شعري يخرج من روح شاعرة ويتسرب إلى شغاف القلب ، ويكشف عما يموج فيها من أحاسيس مشحونة في نبض قلب شاعرة هو نبض لا يسمع إلا في غياهب الصمت.وهناك يكمن في قرارات الأعماق يفرض حضوره الدائم إذ لا يسمع ذلك النبض إلا الذي يحمل قلبا ينبض حالما كعصفور يحلق سابحا في حضرة الخيال والجمال  يحركه الشوق والحنين وهكذا تحيلنا وظيفة العنوان للولوج إلى داخل المنتج الشعري،وتوجهنا نحو بوابة حديقتها الشعرية التي تضم خمسا وثلاثين وردة فواحة الشذى تغري بالتنزه والمتعة

وجدت نفسي محاصرا بسياج شعري مذهب يجذبك إليه جذبا ويدعوك إلى مغازلته والارتماء في أحضانه كي تنال حظك من جماله وعذوبته التي تنساب بغزارة لتروي القلب والوجدان شعرا بأبعاده الروحية والجمالية والإنسانية.

حين اقتربت من عالم الشاعرة رجاء قيباش بغرض إدراك سياق القصيدة لديها وجدت أنها تنطلق من أربع ثيمات ميزت الديوان وهي : الشوق والعشق و الحلم والحزن الذي تنتظم فيها تجربتها الشعرية. ولعل الدخول إلى عالمها الشعري الجميل المثير يحتاج إلى مفاتيح وظيفية قادرة على فك شفرات النصوص،وقادرة على إحداث فجوات يتسلل من خلالها القارئ لاستنطاق دلالاتها القريبة والبعيدة ولتفكيك بناها الدلالية بكل ما تتضمنه من متخيلات وتحليقات وسياحات جمالية. فالمخزون الإبداعي لشاعرتنا لا يمكن فهمه أو التحاور معه أو اختراق جداره إلا باستيعاب تام للسياق النفسي والفكري والوجداني الذي ينتظم هذا الإبداع،والذي يشكل الخلفية الذهنية لكل ولادة شعرية. فالتجربة الشعرية التي أبدعتها يد الشاعرة تترجم ملامح شخصيتها الملهمة التي كانت وراء ممارستها للكتابة،كما أنها تفصح عن مساهمة إبداعية أثرت  الساحة الثقافية المغربية النسائية بخاصة وأغنت خزانتنا الأدبية العربية بعامة ..

هذه التجربة الشعرية نابعة من رؤية شعرية وجدانية منفتحة تنهل من عاطفة جياشة بروائها، كما أنها تنصت إلى همسات القلب وتستجيب لذبذباته. تتغنى بالمشاعر الإنسانية،تعترف للسماء بعشقها  تنسج من شرايين الضباب فراشات الحرية وفي الآن نفسه تنفتح على القضايا القومية العربية الراهنة. يتقاطع فيها نبض الشوق والعشق والحنين بالحس القومي وبأحلام الذات وبأسئلة الحياة. تتعدد فيها الألوان والأطياف والظلال بتعدد ألوان العاطفة الإنسانية المحبة للخير والحق والجمال ، وتمتد فيها الكلمات بامتداد العلاقات الإنسانية الغنائية العاطفية. وتتعايش فيها أسئلة الواقع مع أسئلة الذات.وتسافر فيها الكلمة الشعرية بين ثنايا القلب الذي تنبعث منه نبضات  شاعرة فياضة الشعور تتوحد فيها القصائد لتنسج ثوب المحبة ورداء الشوق ولتصوغ شهادة الوجدان.وكل ذلك في قصائد قصيرة موجزة صاعتها في أسلوب شعري خاص متميز، تظهر فيه ملامح صاحبته، وتنتصب فيها شاعريتها التي شقت طريقها وسط كون شعري تعددت صوره وأصواته وتجاربه وأرهف السمع والذوق لكل صوت شعري عذب المنهل

أبدأ عملية الاقتحام الفني لهذا العالم الشعري بشهادة الشاعرة في علاقتها بالشعر بقولها:" في قصيدة ماقبل البدء :" حروف إليك ترنو وهي بذمة المجاز تتقاذفها أقدام اللغة مسافات تتكور في طوق  الحلم والتمني حروف تلوح بمناديل الأحلام الليلكية ..." فالشعر عندها تعبير عن مشاعر النفس بأحرف من همسات عصفور تقوده أجنحته المنكسرة إلى فردوس الله في جعبة الشعر لحظات تمرق كالشهاب تمشي على صدر القصائد دون استحياء .."ص : 16

فالشعر عندها لم يكن يوما غاية لذاته بقدر ما هو وسيلة طيعة للتعبير عن هموم الذات وللترويح عنها ولترجمة المواقف والقناعات والمنطلقات التصورية والشاعرة  لو بحثت عنها تجدها بمثابة ريشة ساحرة تكتب مواويل الهوى على أهداب الصدر كما نقرأ بعض الحزن في نبض قصيدتها : "أنثى من ياسمين" إذ تنشد :

معتقة عيوني
بشغفي إليك
لأجلك
لم أضع عطرا
هذا الصباح
فقط تفوح مني
رائحة الحزن
لأجلك
أصابعي الشاردة
تخط حروف الشوق
بمداد الأرق ..ص 106

لم تجد الشاعرة لتعبر عن ذاتها سوى بالشعر  فهو تنفيس , وهو عملية تطهير ذاتي تعيد العواطف إلى نصابها وبفضله يتخلص الإنسان من طابو المكان والزمان وتستسلم العقول والقلوب وتتلاقى في حب وسلام وبهذا تستعيد شاعرتنا توازنها العاطفي وتتخلص من الاحتقان الداخلي الذي ينبض في الروح وبالشعر وحده تحاذي الانفجار والحيلولة دون الانهيار
"وفي حضرة العشق تنحني العيون إجلالا لرهبة الشوق ..تفضح سر روح تبحث عن لحظة تائهة من لحظات العمر ..عيون ثملت من ريق نبض ذات وصال تصفق من أهدابها من رعشة الحب عيون في ذروة الوجد مثقلة بغيوم الآه .."قصيدة في حضرة العشق ص : 75  فالشاعرة رجاء تتوسل بالحرف الشفيف المفعم بالعاطفة ..تقول في قصيدة نبض عاشق :

خفقات قلب
في دوالي الحب
تجري بشغف
نبض عاشق يسيل
من ثغر السماء
كيف أردع فراشة
ترفرف بين بساتين صدرك
ترتشف ندى
زهر أهدابك
تشتعل خلجاتها
رغبة على ضفاف شفاهك ...ص : 79

ترقص في الشعر  وتصرخ صرخة الشفه الصامتة الهامسة, فالشعر ملهمها الأول وجسرها بإتجاه البوح المتواري خلف صور من نحت اللغة واختزالها لتخرج منها استعارات وصورا تغرينا بشغف القراءة وهي تخيط الشعر في محراب القصيدة بين معان مرموزة بالإيحاءات وما يميز قصائدها تلك الوحدة العضوية والموضوعية التي تعني ارتباط المعنى في دفقة  انسيابية في الأسلوب ولا غرابة في ذلك ما دام شعرها يتدفق كشلال رقراق من عواطف إنسانية نبيلة شعارها المحبة والوفاء والحلم والشوق والأمل في غد أفضل شاعرة مرهفة الإحساس وتشيّد طريقها في محراب الحب كطريقة الصوفيين في العبادة , وتغني للمحبةالتي توقظ نبضها في لغة شاعرية محلقة مصطفاه من أبجديات خطاب يتماهى مع الذات ومع الآخر وهي تنشد حروفها لحن السكون وتضيىء قلوب الحزانى وتراقص النجوم تغزل القمر وتنثر الشعر بضوع الورود وتشدو الألحان كتغريدة الطيور على بساط الشوق بكل الجنون تنشد الحلم وتطرد الحزن وتنسج من خيوط الشمس جداول ماء على خدود الأنهار وترسم بريشة فنان همسات الندى ولحن القلوب التواقة للصفاء. وللاقتراب أكثر من هذا العالم الشعري،سأترك لنفسي فرصة للتحاور مع بعض قصائدها من أجل استجلاء دلالاتها وكشف طبقاتها ومستوياتها الفنية والتسلل إلى مضمراتها وبنياتها الخفية. ولهذا الغرض شعرية العنوان فحينما يبكي الحنين وتهيج الأشواق في الأعماق،تتحول الذات إلى بركان هائج تضطرب فيه المشاعر والعواطف والانفعالات.وفي هذه الحالة ينبغي البحث عن منفذ أوقناة يتم من خلالها تصريف تلك الانفعالات العاصفة بالذات. هي تأوهات مترددة بين حيرة وألم وتعب أو شكوى ممزوجة بأمل آت ومرتقب وفي نفس الوقت نلمس فيها حزنا وخيبة وأحلاما تخبو  :

أحلام غارقة في برك الموت
تجادل العاصفة
تحارب الطوفان حتى الفناء..."ص26"

لكن الشاعرة سرعان ما تفر من هذا الواقع المأزوم  لتعود إلى البحث عن لذة عيش تنسيها تلك المرارة ولعلي بها تبحث عن لذة غزلية روحية حالمة دائمة كما عند الصوفية لا عن لذة عابرة. ونعيش مع الشاعرة في قصيدة قبلات حائرة :

تسالني عن ماهية حروفي
هي يا حبيبي
قبلات أردها إليك
حبات رمان
أنثرها على شفاه الحنين ...

بهذه اللغة الشفافة الرقيقة ترسم الشاعرة هذه اللوحة الطبيعية،ينتقي الكلمات وتختار العبارات وتستدعى قاموس الخطاب الغزلي ليمنحها طاقة للتعبير والتصوير.لكنها تزيد الصورة جمالا حينما توظف لغة شفيفة رقيقة مختصرة موجزة تحيلنا على آفاق بعيدة ورؤى حالمة للوصف وللتعبير عما يجول بخاطرها من مشاعر وعواطف إنسانية سامية وكعادتي حين أقرأ قصائدها وفي سكون الليل أغمض عينيّ لأستشعر لذة الجمال والدهشة لفظا ومعنى... ننتظر من الشاعرة رجاء قيباش نبضات أخرى من غياهب القصيدة.