شجو الصياغة

اقتطافات من عُباب الروح
أروى الزهراني.

إن كان هُناك مَعلمٌ واضحٌ أُشير به إلى روحي أو أفسره بالنيابة عنها فهو ذلك التخبط المتواصل في أمكنة عديدة يجمع بينها مُنبه الحنين إلى اللا معلوم الذي يسري نحو الأعماق مثل شرارة تُنذر بحريق!

حنين عصيّ على الفهم والترويض، سادرة في غيهبه روحي وتضج به وتتدفق بما يُحاكيه ويُمثل امتلاؤها به.

قضيت عمري أُمنّي هذه الذات وأهدهد فزعها بقدرتي على الاحتمال فلن تتساقط من حُجرة قلبي سهوًا أية عوارض، سأنتقيها وأنخلها من بين بعضها وأقتطفها ليبدو أنّي في أوج الترف ويا لها من أمنية فعلًا أن أمتلك هذا النوع من الخيارات الآن!

دائمًا تكون مثل هذه الانتقاءات مرآة عاكسـة لخلفيات الذات،

حيث تُطعِّم إدراك الآخرين بمضامين عنا لا نود التصريح عنها إلا بطرق ملتوية ومشوشة وغالبًا جزء منا يود منها أن تفتعل الوضوح لو لمرة..

كان كل شيء ينسكب مني برقة بعد انتقاءه وتخليصه من شوائبي المزمنة على هيئات مسالمة وبيضاء، تستقر بسلوى ولا تؤذي إلا كينونتي المتفردة في تلقي الأذى وهي تُصيغ قسرًا مزاجات هذا الكائن الذي تجسده وذائقته وهفوات اللحظات العنيدة التي تواجهه وتُهمّش الحقيقي الثائر المُريب والمُهلك، تُظهر استرخاءً ثائرًا في سرد كل شيءٍ تودّه كتغطية مُحكمَة لكواليس الروح ومصنع مسيرتها،

أتواطئ مع ذاتي ضد كواليسها بفعل الصياغة، ودائمًا كان التواطؤ مع ذاتي خياري الوحيد،

وتتلاطم في عُمقي موجةٌ هائجة وصداها الغاضب يمشطه بحنوّ ميثاق قديم قطعته مع ذاتي بضرورة الاحتمال وشيمـي في توخي الهروب حتى مني..

في مقابل كل ما افتعلته فإني الآن مدعاة لنفس التيه القديم ولكن مع عوارض أفظع وحواجز أدق واقتطاعي من ذلك كله ضربًا من المستحيل، حتى قُدرتي على الوفاء بالمواثيق لن تشفع لي من بينها..

أقبع في صقيعٍ جائر، لا ينطفئ في حضرته احتراقي بل يتصاعد!

علاقتي مع روحي تجادلية متنافرة وكأنها خصم آخر أواجهه والآخر تمثله الحياة،

انفصالٌ بيني وبين كل شيء، أحاول تعداد الأشياء القيًمة التي انشطرت عنها بل أُنتِزعت مني فإذ بي انفككت عن كل شيء،

حمولتي الفيضية تبتعد بُعدًا شاهقًا عن القدرات وإمكانياتي..

يسيل مني هذه المرة سيلانًا قسريًا كل شيء، تمزق زهو المواثيق، تداعت موهبة الجَلد، والشِيم انكمشت واختزلت في كَنهها ماضيّ التليد، تِركة مسيرتي هذه الشيم تقوقعت ويدي على قلبي ألا يختبرني الله بشأنها..

أستحضر في رأسي بقصد الاطمئنان كل التفاصيل القديمة الدافئة فأحترق من فرط العتب منها والحنين منـي..

لم تعد بي قدرة لهدهدة الطوفان وتحويره

تخلّعت أذرعتي من تمشيط العُباب، وهَندمة مقدماته لزمن..

كل شيءٍ الآن يُقشّر هيئتي تاركًا أثر فاضح،

تمخُر "كينونتي" النسمة وتُفزعها العلامات،

كيف لا تجزع وقد قضت أزمانها تُحابي الغرق مضطرة،

وتساوم طيش العواصف المزمن ويخدعها،

كانت تلوح للأسربة حتى كذبت حتمية النجاة!

نسيت أن هناك مرفأ وساحل

وأن النسيم مجرد هواء ليس ريحًا أو كارثة،

والماء مجرد ماء يقضي عليه العطش ليس عُبابًا أو خِباب ! كيف لا تهلك وحُطام سفائن مسيرتها يصطفق في أعماقها وكلما هدأ شجوها هدر الموج!

لم يعد الانتماء لي دارجًا ضمن طقوسي أو خياراتي،

ولا يكفّ إلحاح إثبات الوجود يضج اعتقادي بالعدمية،

أصبح البحث عني هو الجزء المفقود في هذه الأحجية التي صنعتها الحياة..

أتأمل فقط أصداءي الدارجة، أجتهد لرعاية أجزاءه المبثوثة في روحي، أحاول تجميعها في تلقيح آثار وجودي

أُوازي عدميتي قليلًا ببضع بصمات،

أامل أن تُشكل بفحواها الصياغة

التي يغدو كل شيء الآن يدور حولها وتعكسه وتُحاكيه

دون لجام،

تلك الصياغة التي تبدو الحَسنة الوحيدة الباقية التي نقوم بموضعتها في المكان الذي نحفل بانطباعاته الحميمة

كذريعة للسلوى..

لطالما كوّنتني مثل هذه الانطباعات ولم تكونني في كثير من الأحيان، كانت مثل قنطرة أمدها لألتقي بصورتي في عين الناس، ودربًا واهيًا أعددته في يوم من الأيام مسرّاتي والآن يفوق الأمر ترف المسرة ويغدو بمثابة الهوية..

تُسلّم روحي الآن بعد هذا العمر الطويل من المراوغة

والجُهد الحثيث واستيفاء الجَلَد:

بالصياغة كونها مُسكّنٌ وإن كان وهميّ للكينونة السادرة في عذاباتها.

اقرأ أيضا