من أثير الجائحة/ إلحاح يناهض الفناء

"مجلة جنى" بقلم أروى الزهراني -  جدة

يعذبني قصور الأبجدية في النقيضين:

أقصى عذابات الأقدار وأقصى هِباتها..


ولكننا متورطون بالرغبة، رغبة في التلويح بهذه الجُنحان التي ترعى نُبلنا بينما كل شيءٍ يُغيّبه،

رغبة في الإشارة بشُجيرات منيعة قاومت يباس العمق وتنامت رغم العواصف، بفاعليتنا الجبارة التي لم تفقد كفاءتها بعد في رؤية التماثيل والمعجزات وجوهر الأشياء رغم الأغبرة والضربات والوعكات،

 وأننا هُنا، مررنا، وعشنا، وكافحنا ولم يكن العيش علينا هيّنا ويسيرًا وخُضناه رغم وعورته لغاية أسمى من نزعة الحذر!

أوليست الرغبة ورطة!

عندما تضعنا في مأزق بين الإلحاح والعجز وبين التوق للصياغة وشُحّ القوالب!

وتُلقينا في بئر أعماقنا المعتلة بنكبة الزوال دون هدنة،

وبينما كنا نهرب من أعماقنا نعود لها الآن فما من أحد إلا ويغرق في ذاته بفِعل ذاته.. أوليست مواجهة أعماقنا ورطة!

هذه النكبة تخلق المسوغات المُلحّة حتى لدى فاقد الكفاءة والعاجز تجاه روحه مثلي،

 فيتجند بالفعل حتى وإن كان مرفوضًا في طبيعته الوقورة !.

ماذا لو كانت هذه الحيرة المُهلِكة هي ما يُبقينا قيد المحبة- الإخلاص- التذكر- التوق!

هي ما يُبقي علينا في ذاكرة الزمن ومن مرّوا فيه وبنا!

ماذا لو كانت العواطف تنشأ من ورطة في البدء ثم تتصعّد لتتكوّم حولها مئات المزالق الحميدة

وكلها تصبّ في مجرى العجز عن الإتيان بما يُكافئها

 وتأبيدها بهذا الشكل هو المجد الوحيد في مسيرة حياتنا

 بل دلالة مرورنا بهذا السِجال الدنيوي ونزاهتنا فيه؟

في حاضر الوباء ومع كل هذه التكهنات بانتهاء العالم!

لا يمكنني بكل هذا الهلع أن أتجاهل واجب تسديد ديون العاطفة لمن أُدين لهم بها،

بالكلام، بالكتابة، بأي شيءٍ لا تمحوه قيامة الإنسان وزواله!

تستحيل مداراة الإلحاح بأي تزجية، تجاه عاطفة وحيدة أوجدتني وجددتني وهذبتني

وبددت هيمنة العدم في مداري على الدوام،

كل شيء الآن يدعو لتأثيث هذا الأفق باغتراف من ينابيع روحي التي وهبتني طمأنة الأبدية

 ككائن زائل ومعظمه يتبدد!

أنا الكائن المرجوم دومًا بالتكهنات نحوه، وبالزعم الجائر الذي يستحيل يقينًا من فرط التزامي بالصمت

أرفض الآن أن يعترض هذا الإحساس الفضيل النزيه الناصع الخالد أي انتهاكات تُشكك بقدسيته!

هُنا حيث تتصعد مشاهدات الكلمة، تحصل روحي على مرادها من غاية الخلود ولو في التفاتة واحدة

يسكن فيها أجلّ منالي.

لم أكن أتصور أني سأضطر يومًا لأن أُفكك عُقدًا هائلة من عواطفي لأهندم بها الكلمات وأني سأفعل ما كنتُ قانعة بتواضعه مقابل فضاء كثيف شاسع بلغ من القدسية حدّ أن حميته بالصمت الوقور إجلالًا لجوهره، لكن ومجددًا للضرورة استثناءات، هذه الموبقات التي تحدث في العالم ولنا ولي فظيعة على حدسي المذعور دومًا بشأنك!

كيف أمارس شيمي في التأني حد اقتناص الفرصة المناسبة ونحن نتضور في هذا الكرب دون بوادر وبشرى!

 

هذه الرغبة مستبدة الآن،

ماذا لو انتهى عصر الكلمة!

ماذا لو لم يتسنّ للعواطف أن تُدلل عليها أبدًا!

ماذا لو لم يعد بِمكنتي إثبات شيء وتصعّدت انتهاكات الناس ورُجمت مجددًا بشيءٍ ظالم لحقيقتي يفوق يقينك بي وفقدتنا في كومة أفعال لا أملك تجاهها أي ردة فعل!

ماذا لو لم يعد يُلمح شعور الإنسان وفقدنا البصيرة والحدس وبراعتنا في اقتناص التفاصيل ولم يعد لأي شيء محسوس جدوى؟

 

يتولد كل شيء من الخوف، تنبع الرغبة الأقرب لكونها حاجة مُلحّة كلما سطت المخاوف وكان منشأها العُمق الذي يخصنا، مخاوفي كلها تكاد تحدث، من يدري!

لا أفتعل تشاؤمًا ولكنني لن أتفاءل بسذاجة في ظرف كارثيّ مجهول المعالم... لن أسقط في فخ التأني، لن يحيدني انتظار الأجمل والأنسب في هذه الدوامة التي تسحق كل شيء وتُبقيني مضطرة - مذعورة - أتلفّت بفزع؛ خيفة أن يفنى كل شيء وأنا لم أخلّد الجزء الأبيض الوحيد فيّ بعد!

حسنة واحدة تُعمّر عُمقي، أخشى عليها تكالب السوءات، قبل أن أرفعها عاليًا عاليًا كراية السلام في عز معركة لا يعنيني أن أُهزم فيها أو أموت، يعنيني فقط أن أشير لكينونتي الطيبة في ساحتها وأستلقي للمرة الأولى ككائن محسوس بجدواه دون أن تسحقه العدمية بينما كان استحقاقه حاضرًا في كل معركة..

ما عادت لدي مخاوف تجاه العيش أو الزوال، كل يوم هو احتمال قيامة بالنسبة لي،

لدي فقط ثِقل الرسول برسالة أوحى بها له القدر ولم يشهدها أحد ولم يُكمل فصولها بعد، لدي حِرصه على تخليدها ونضاله في سبيل الإيفاء بعظيم مكانتها لديه،

لا يهم بعدها إن انتهت الحياة أو عادت لجريانها، لا يُهم كم من الحوادث قد تحدث بعد وكم من الهدن، الطارئ الآن هذه الكارثة وتُعادلها في عيني إلحاحات الخلود.

 

لا علامة تحمل هويته أُصوّبها في مرمى كل الألحاظ، وقامة مقدرتي قصيرة جدًا على تسلق الفعل الصريح

الذي يغني عن الكلمة والتلميح والإيماءة، أمام هذا العالم المشغول الآن أو حتى في حدود قريتين يتفقان على جُرم المحسوس،

يا لهذا الفعل الصريح! لقد كنت أؤخره طوال حياتي وأتحيّن قطافه ولكني أنقضُ الآن كل تأني

إثر كارثة تُسقِط كل انتظار!

يجب أن أُبقي قُدسية كل شيء في مأمن من نذير الزوال،

كيف لا أسارع لذلك وأنا مهددة على الدوام بقيامة!

هذا الانفلات العصي عن ردعه صحيّ جدًا لمخاوفي،

عادل جدًا بحق الأحاسيس الطيبة التي ما انفككتُ أحميها بفضيلة الصمت..

لا أعتزم أي تدخّل صريح للأسماء والمعالم والمرئيات، كل ما أجاهد له أن يطغى المحسوس في كل هذا المرئي عوضًا عن اندثاره مثلما حكمت الأقدار بشأنه دومًا!

أتصور أن أعظم توازن يحدث في حياتي هو يحدث الآن وأنا أُرقّي عواطفي البيضاء جدًا على  مرأى من ملاحظتها

ولو بالمرور العابر والتقاط ظلالها، عوضًا عن تقدّم الضارّ منها دائمًا وتفشّيه حدّ أن بات يُدلل على كينونتي بالقتامة!

فكل ما يحدث الآن يُصادر سجيتي في تغييب المحسوس القدير الناصع،

مروّعة هذه المخاوف بيد أنها نافعة في خلق هذه الحركة داخلي،

حركة تفوق حركة الكون في هزاتها وشراراتها ولذعها وشجوها،

حركة شجاعة مطلوبة لا يعرفها داخلي كثيرًا بشأن أحاسيسه الطيبة.

 

أقتبس من رحم معاناة كليفورد لحبيبته في رسالة طويلة كتبها لها مسوغًا لكل هذا التعقيد في رسائله:

"كلمات كثيرة، لأنني لا أستطيع لمسك"

 

مُنعنا منذ الصغر من الاغتراف فورًا من أعماقنا دون اقتراف الرتوش ورشق حقائقنا بالألوان وتغييب ما نُحسه في متاهة لا تنتهي من الانفعالات والمسالك وحينما كبرنا لم نستطع أن نقول ببساطة، وأن نفعل المباشر، وأن نختصر ونجرؤ ونُشير ونعبر بطلاقة،

أحد الضحايا هُنا أناي المفعمة بالعاطفة،

المقيدة بإجراءات السلامة المتوارثة دون اختيار،

طُعّمت منذ الطفولة بشيمة الخجل، رُجمت أيضًا بعُرف السكوت فمثل " كليفورد" الآن كتبت كل ما سبق لعجزٍ يخص خُلاصة كل ذلك وجوهره وغايته،

ولنفس هذا العجز تحل كل هذه الصياغة كالغرق في عُمق عاطفة لا يمكن حشرها في مفردة فحسب!

هل ستجد العواطف الآن خلاصها بعد الصياغة!

قطعًا لا.

لكنها تستريح في ظل احتمالات كثيرة تُضاعفها وتهزها في ذات الوقت، ربما التخلص من ورطة الرغبة بتحقيق مُرادها هو السِلم الذي لا يضاهيه شيء بحق ذُعري من الفناء.

أعرف أن الصياغة ليست كافية لاستيعاب فضاء عميق ومعقد كالمحبة، لكنها تجود في الكارثة بفاعليتها في تخليد كوننا نُحب حدّ أن فاضت من جوارحنا تجاه المحبة محبة تفوقها ونستريح لأننا ننعم بهذا الكم من قدسية الإحساس!

والصمت في ظل هذه الفظاعة جُرم تقترفه كاتبة لطالما صاغت من عز فظائعها الكلمات!

يحوم كل شيء نحوك، أنت أيها المتلقي الذي أحب،

يتعزز خلودنا بهذا الجسر الذي يُؤصله النظر نحوه،

كيف لا وكل ما نملك الآن هو الجسر وهذا العالم يتفكك،

جسر الصياغة بين روح وأخرى لن يبدد سيرتها شيء

وقد تمركزت في المساحات من آثارها لمحة!

 

كبرتُ بمقدار عُمر وأنا أغترف من روحي أعظم ما تحويه، ما أصعب أن يُخالف المرء ديدنه بشأن العواطف،

أكاد أشعر بجفاف لغتي وغموض مضمونها فما كنتُ إلا ألهث يلاحقني الهلاك،

نثرتُها في كل بقعة وأنا هاربة أسعُر هلعًا وريبة ورغبة ضارية، يرمقني حصاد عواطفي من بعيد،

ولا يُهم إن كنتُ سأُمنح فرصة تلقّيه من قُرب أو لا، المهم أن ينجو في ظل هذا الخراب...

إنها مجازفة مطلية بالإيمان بفاعليتها، إلحاح يقتضي تعبيده في هذا المنعطف،

أنا الزاهد عن الفعل مقابل وفرة هائلة من الأحاسيس، أُغالي الآن في صرف محبة لا أمل لها إلا في خلودها في الغيب وللعيان، وجُلّ ما تصبو إليه روحي إثر هذا الهلع أن تُؤبد أَجلّ ما فيها: المحبة وكائنُها!

 كل بذل مرهون بغايته وأقصى مسوغات هذا البذل التائق للخلود "أننا نُحب بشراهة، بقُدسية تُرقينا على ديدن البشر درجات"..

 

هُنا ويُحاصرني صوت طلال في رائعته صعب السؤال بعد سيل من الظروف التي شطرها بكل قسوتها باستثناء يتيم:

" لكن نحب والله نحب وفوق الخيال"

نعم، هي المحبة ولا شيء آخر يُصيّرنا متورطون نلهث لئلا يضيع مجدها في ظل العدم في وجود كل فخ يتصيّد زوالها!

 

لم تنته الكارثة ولا توجد بوادر خير لهذا الكرب،

تباعًا لذلك لم ينتهِ تخليد المحبة بحذافيرها،

لكن على الأقل تمّت مُراعاة الرغبة وإلحاحها الطارئ بعزاء الصياغة،

فُضّت عُقدة خانقة كانت تعربد في روحي..

 " أغدًا ألقاك" من يدري!

يطغى الخوف، تهيمن الكارثة، يحوم الانتظار وأنا على حافة الحياة حيث الضباب يستحوذ على كل شيء

حتى على إيماني إلا بشأن منارة ألمحها شاهقة بجلاء  تخص العاطفة، نجت في عز هذه الكوارث،

ألقاك كمنارة تنجو دائمًا من الهلاك!

كتمثال عصيّ عن جحدان قيمته!

في كل مساحة وكل نظرة وكل لحظة وكل مفردة!

هذه المتاهة لقلبك، امضِ فيها حافيًا من كل شيء إلا من يقينك بي،

تمّ تأبيدُك، تبلورت فحوى الرغبة، فاض النبع لمجراه

 والأجنحة ترفّ ببسالة في هذه الأنقاض،

وروحي تنعم بسلوى الانصياع لرغبة عتيقة حان انعتاقها من الحرمان،

لا يمكن أن يتأجل الخلود الآن ولا يمكن أن يُغيّب المشهد الوحيد الذي أراه ماثلًا أمامي من على هذه الحافة...

ثمة منارة تخصك وثمّ قلبي يؤمّن لجوهرها الأبدية وينتظر الخلاص.