أدب الطفل.. تاريخه ورواده

"مجلة جنى" عَرَفَ القرن العشرين اهتماما بالغا بالذات الإنسانية، خاصة في الفترة التي تلت الحرب العالمية الأولى، إذ عكف علماءُ النفس والتربية والاجتماع (وغيرهم) على دراسة نفسية الطفل بوجه خاص من خلال ملاحظة سلوكه، ليخلصوا إلى أنّ الطفولة مرحلة من حياة الإنسان لها استقلاليتها وخصوصياتها ومميِّزاتُها.

واكبتْ ظهورَ هذه النهضة العلمية حركةٌ أدبيةٌ وجَّهتْ جهودها إلى تأسيس أدب خاصٍّ بالطفل، له قواعده وأساليبه وفنيَّاتُهُ، وكانَ من رُوَّادها شعراءُ وأدباءُ وفلاسفة ومفكرون أثروْا مكتبات المعمورة بنصوصٍ موجهة للصغار تُراعي مُستواهم العلمي وتتماشى مع مُتطلباتهم الثقافية والتربوية. فظهرت نتيجةً لذلك مطابع خاصة تشرف على طباعة ونشر هذا النوع من الأدب دون غيره، بتقنياتٍ فنيةٍ عالية (كالرسوم وأغلفة الكتب المبتكرة بألوان وتيمات فريدة) تناسب مضامين تلك الكتب.

مراحل تطور أدب الطفل

يرى الدارسون أنَّ أدب الطفل مرَّ بثلاثة أطوار، هي:

الطور الأول: يبدأُ من 1697م، وهو تاريخ صدور "حكاية أمِّي الإوزة" التي كتبها الشاعر الفرنسي تشالز بيرو (1628 -1703م) باسمٍ مستعارٍ أول الأمر. لقد ساهم هذا الكتاب في بعثِ نشاط أدبي ملحوظ في جميع أنحاء أوروبا، ارتكز على الموروث الشعبي للقارة العجوز وتقديمه للأطفال.

عرفت هذه المرحلة حدثا أدبيا مهمًّا هو ترجمة أنطوان جالان (1646 -1715م) لحكايات "ألف ليلة وليلة" التي أصبحت -في ما بعد- معلما بارزا في الإبداع الأدبي، أثَّرَ في كثيرٍ ممَّا كُتِبَ في أدب الطفل في القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين. ثم أخذتْ الكتابة في أدب الطفل منحى أكثر نضجًا مع ظهور كتاب "إميل" لجان جاك روسو، الذي كان أوَّل مَن درس الطفل كإنسان حر.

في هذه الفترة أيضا ظهر كتَّاب كبار تركوا بصمتهم في الكتابة للطفل، منهم الأخوان الألمانيان يعقوب غريم (1785 -1863م) وفلهلم غريم (1786 -1859م) اللذان كتبا "حكايات الأطفال والبيوت"، التي تحتوي على القصة العالمية "بيضاء الثلج"، والإنجليزي لويس كارول (1832 -1898م) الذي نشر قصته "أليس في بلاد العجائب" والدانماركي هانز أندرسون (1865 -1875م) الذي كتب قصة "البطة القبيحة".

الطور الثاني: هو الفترة التي تلت الحرب العالمية الأولى (1914 -1918م) وتميزت بإنجاز دراسات علمية ممنهجة حول الطفل ككيان مستقل، فأُلِفت كتبٌ عن سيكولوجيا الطفل من خلال دراسة سلوكه وملاحظة عاداته ومراعاة إمكاناته وقدراته. استفاد أدباء تلك الفترة من هذه الدراسات، فطوَّروا أساليبهم وموضوعاتهم وطريقة طرحهم للنصوص الموجهة للأطفال كي تتماشى مع متطلبات الطفل ورغباته.

الطور الثالث: يبدأ هذا الطور بنهاية الحرب العالمية الثانية (1939 -1945م) إذ يعتبره الدارسون في الغرب العصر الذهبي لأدب الطفل على مر الزمن، فقد طُبعتْ خلاله الكتب على نطاق واسعٍ جدا، ونشرت مجلات موجهة للطفل خاصة، وجُسّدتْ المسرحيات وصُنعت الأفلام. كما ظهرت المكتبات ودور النشر المختصة، وأُدرج أدب الطفل كموضوع له مكانه في الدراسات العليا في مختلف الجامعات الكبرى، ما أنعش الحركة النقدية التي أسست قواعد هذا الفن وثمَّنت الجهود المبذولة وصحَّحت المسار المسلوك.

أدب الطفل في العالم العربي

أمَّا في العالم العربي فقد ظهرت أولى بوادر الكتابة في أدب الطفل على يد أمير الشعراء أحمد شوقي (1868 -1932م) الذي تنبه مبكرا إلى حاجة الطفل العربي إلى هذا الضرب من الأدب، فألف قصائد شعرية متعلقة بهذه الفئة العمرية، كقصيدة "الصياد والعصفورة" و"الديك الهندي" و"الدجاج البلدي"، التي ضمَّنها ديوانه "الشوقيات" الذي صدر في 1898م.

أمَّا ما دوِّن قبل شوقي من أدب فلم يُسطر خصيصا للأطفال، كما صرَّح بذلك الدكتور علي الحديدي وغيره من الدارسين، فلا يمنع مِن أنَّها كانت مصدرًا غنيا بالقصص والأشعار التربوية الهادفة، التي اختار منها المربون في العصور المتأخرة ما يناسب عمر الطفل وقدراته. ومن هذا المنطلق تَصدّى بعض الكتّاب في العصر الحديث لإعادة كتابة حكايات "ألف ليلة وليلة" بتنقيحه من الخرافات والخوارق وبعض المشاهد "الإباحية" وتقديم فصول منها كتمثيليات على خشبات المسارح.

ثم تتابعت جهود الأدباء لكتابة أدب الطفل، من شعر وقصة، وارتكزت في الغالب على إعادة كتابة قصص من التراث بالتلخيص والتبسيط وإضفاء التشويق والفرجة عليها ومواكبة روح العصر في بعض الأحيان. وكثيرا ما كانت تجري أحداث هذه القصص على ألسنة الحيوانات والهوام، إلا أنّ التجربة الجديدة لم تنضج بالقدر الكافي حتى مطلع سبعينيات القرن العشرين.

بعد عهد شوقي برز اسمٌ لامعٌ يصنف على رأس رواد أدب الطفل في مصر والعالم العربي اقتباسا وترجمة وتعريبا، ألا وهو كامل الكيلاني (1897 -1959م) الذي بدأ مشواره الأدبي بتأليف قصته الشهيرة "السندباد البحري" في 1927م، كما كَتَبَ رائعته "من حياة الرسول" التي ذلل ويسَّرَ فيها سيرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- لتتماشى مع فهم وإدراك البراعم الصغيرم ثم ابعَ كتابة قصصه مستندا فيها إلى التراث العربي حينا، وإلى التراث العالمي حينا آخر.. كل ذلك في سبيل تشييد ثقافة واسعة للطفل عن طريق الإمتاع! ثمَّ دوّت أسماء أخرى واصلت المسيرة فأبدعت في هذا المجال لأهداف تعليمية تربوية في معظمها، نذكر منهم على سبيل المثال أحمد نجيب (1928م) وعلي الحديدي في مصر، وسليمان العيسى (1921 -2013م) في سوريا، وجعفر الصادق في العراق.

الخلاصة

إنَّ أدب الطفل بوصفه ظاهرة إبداعية؛ بات ضرورة ملحة، خاصة في عصر لم تعد فيه الأسرة المبرمجَ الوحيد لشخصية الطفل وفكره. فإذا كان أدب الطفل في الغرب قد بلغ الغاية، نظرية وتطبيقا، فكرة وتجسيدا، فإنَّه في عالمنا العربي يحتاج إلى دفعة قوية، سواء ما تعلَّقَ كمه بالإبداع الأدبي أو الإخراج الفنِّي أو التجسيد الدرامي للنصوص. لهذا تبقى دراسة أدب الطفل تفتقر إلى جهد إضافي واهتمام أكبر وعناية أكثر، لأنه أدب لا يقل أهمية عن أدب الكبار، بل قد يفوقه.

بقلم: رؤوف بن الجودي
المصدر: الجزيرة