"سبيل الغارق"... الطرق على أبواب الماضي بقوة الذاكرة والحلم

ريم بسيوني تستعيد أجواء «ألف ليلة وليلة» في روايتها الجديدة

"مجلة جنى" عن الأمنيات وأثمانها الباهظة ومكابدة الوصول إليها، وجدل الذاكرة والحلم، يدور عالم رواية «سبيل الغارق - الطريق والبحر» الصادرة أخيراً للروائية المصرية ريم بسيوني. ويبدو عالم الرواية مشدوداً إلى طَرق أبواب الهزيمة الإنسانية بلمسات سرد تاريخية، حيث «لا سكينة دون سلام مع الماضي»، حسب قول أحد أبطالها، الذين يقفون على مفترق طرق مألوفة، وبحار مجهولة، فتصبح «الأمنيات كبرى الخطايا» إذا خافوا من الغرق، أو بتعبير الرواية في تصديرها «ولو خشيت الغرق فأنت غارق لا محالة».
تُفتتح الرواية الصادرة عن دار «نهضة مصر للنشر» بمشهد يُعيد إلى الأذهان حكايات «ألف ليلة وليلة» و«الشاطر حسن» وأميرته «ست الحسن والجمال» ابنة السلطان، لكن الكاتبة تتسلل للحكاية من بابها غير الشاعري المألوف، فالشاطر حسن يقع تحت اختبار صعب، بعد أن يُعلن السلطان تزويج ابنته المريضة لمن يصل لسر علاجها، فيستمع الشاطر حسن خلسة ليمامتين تقول إحداهما للأخرى: «لو أكلت الأميرة، ست الحسن والجمال، قونصتي وكبدك لنجت» فيغلبه العشق ويذبح اليمامتين، ليُهرول إلى سلطانه بما يُشفي أميرته فيفوز بزواجه منها، ورغم أن هذا الفوز لم يُسقطه في غياهب الغرق والهم الأبدي، فإن لعنة الذاكرة ترافقه وتشكّل جدلاً حاداً بينها وبين الحلم، فبعد ذبحه اليمامتين غدراً: «يقول الشاطر حسن إن الذاكرة مؤلمة، ووجعها أسوأ من الذل»، فعندما تُذكّره اليمامة بانتصاراته، يدرك مدى عجزه وقلة حيلته. في البداية توسل إلى اليمامة أن تبقي على الذاكرة. ولو أبقت عليها فسوف يتذكر عمره الطويل والسبل التي غزاها بجيوشه وخرج دوماً سالماً، ثم تأتي هزيمته فتذله، ولو نسي ماضيه سيسير في الحياة غافلاً حتى تقع هزيمة فيفيق ويموت آلاف المرات، ثم تسكب عليه ذاكرته كأنها نار فتحرقه وتقتله. يظل الشاطر حسن في تيه، تلاطمه أمواج الذاكرة والحلم، فشبح اليمامتين، يلازمه ويسكن طوايا جسده وروحه مُتمثلاً في شيخ حكيم، تسكن في كلماته فلسفة الرواية حتى نهايتها: «جازف لعل في المجازفة نهاية لثقتك وأمنك وخوفك ولعنتك. ولو خشيت الغرق فأنت غارق لا محالة، أقلع بسفنك إلى المجهول لعلك تصل».
يزهد حسن في ابنة السلطان، ليهيم في المجهول لعله يصل، يستقر عند «سبيل الغارق»، وهو سبيل ماء تستقر في جوفه حكايات الغرقى من أمثاله، وتتكئ الرواية على حكاية تاريخية تذهب إلى وجود سبيل يُدعى «سبيل الغارق» الذي طُمست معالمه عبر الزمن، لكنه يُستدل عليه بقربه من شجرة مريم المُقدسة في منطقة المطرية بالقاهرة، التي كانت يوماً جهة لحجاج مسيحيي أوروبا، وتلتقط الرواية الحكايات المنسوجة حول «سبيل الغارق» لتجعله رمزاً لإعادة تقييم الإنسان لمسالك حياته، كما لجأ إليها الشاطر حسن وهو يُفكر في أمر روحه ومسلكه: «يُحكى أنه سأل اليمامة بعد مئات الأعوام، متى تتوقف عن تعذيبه، فقالت: هي أيام معدودات، وانتصارات صغيرة... يبقى انتصارك غير مُكتمل»، ولأن العمر قصير فقد تناثرت أوجاعه داخل أرواح أخرى عبر الزمن، وذلك في لعبة سردية صنعتها الكاتبة ريم بسيوني: «ظهر الشاطر حسن مرتين، مرة في عام 1509 في عهد السلطان قنصوة الغوري، ومرة أخرى بعدها بما يقرب من أربعة قرون في عام 1882».
وعلى ذلك، تتتبّع الرواية سيرة «الشاطر حسن» من خلال ظهوره، لكن لعل المرة الأبرز التي تحتل الموقع الرئيسي من أحداث الرواية هي عبر حكايته في نهايات القرن التاسع عشر بوصفه «حسن الخادم»، الذي تُصوره الرواية على أنه شاب داكن السُّمرة يحمل على كتفيه إرثاً طويلاً من العبودية، ينشأ في كنف أسرة ميسورة، وظيفته الأولى هي رعاية الابنة «جليلة» وملازمة خط سيرها، فتكون له «ست الحسن والجمال»، ولكن مشاعره هذه المرة مرهونة بظرف سياسي وتاريخي عاصف، تتداخل فيه مشاعر الحب بالثورة الاجتماعية الفارقة التي تكون فيها «جليلة» واحدة من نواياها، بعد أن ساقها القدر لتصير أول طالبة مصرية في مدارس البنات التي أُنشئت بأوامر من الخديو إسماعيل، وتضطر عائلتها لقبول هذا الأمر الذي كان مسيئاً لهم اجتماعياً في هذه الفترة ويهدد مصير ابنتهم في الزواج، ولكن جليلة تستكمل تعليمها حتى تصير مُعلمة في تلك المدرسة ومن بعدها كاتبة مقالات يغلب عليها الحس المُدافع عن حقوق المرأة وتعليمها في هذا الزمن الصعب، ويعايش «حسن الخادم» ثمن ما تدفعه «جليلة» من أجل رسالتها، ويُكابد مشقة الدفاع عنها في مواقف مختلفة، لكن الأكثر ما كان يُكابده من عشق مكتوم لها «كان مريضاً بلهفة لا تزول وتوق لا ينقطع، أدى المرض إلى وهن جسده وشق روحه».
يتشرب «حسن الخادم» فلسفة الغرق كما «الشاطر حسن»، بعد أن يُلازم الشيخ «الزمزمي» المُرابض لـ«سبيل الغارق»، الذي يُحدِّثه طويلاً عن البحر والطريق ومسالك النفس، وفي لحظة مُكاشفة نادرة تتوق «جليلة» المتعلمة أن تستمع من خادمها الخانع الصموت وهو يُلقنها عن العشق ما لم تسمعه يوماً: «اللهفة يا هانم كالموت، تُصيب كل قلب على حدة، لا يوجد شوق كشوق ولا عشق كعشق، كما لا يوجد كف مطابق لكف، ولا ألم مطابق لألم»، فيرقّ لها قلبه في تلك اللحظة، حتى تُبدل مفارقات سردية من حال علاقتهما كسيدة وخادم، في ملابسات عاصفة بعد قصف الاحتلال الإنجليزي لمدينة الإسكندرية واحتراقها طيلة ثلاثة أيام، وإحاطة مصر بأربعين ألف جندي بريطاني، وانهزام الزعيم أحمد عرابي، وفي قلب هذه الهزائم، يلتقي «حسن الخادم» عند حُطام قلعة قايتباي السكندرية عجوزاً إيطالياً يعدّه العابرون مجنوناً، ولكنه يعطي حسن رسائل خاصة بأحد من تجاسروا للبحث عن الطريق في زمن آخر، لتفتح أمامه تلك الرسائل آفاقاً وغُرفاً تاريخية بعيدة، وهي رسائل خاصة بأحد تجار البندقية التي يحكي بها عن تواصله مع السلطان الغوري في مصر أوائل القرن السادس عشر ليُنقذ تجارة مصر والبندقية من البرتغاليين، وكيف دعوه ومن معه من تجار البندقية لحفر قناة تربط البحر الأحمر ونهر النيل لتختصر طريق السفن، وتقضي على طريق البرتغاليين الجديد الذي اكتشفوه حول رأس الرجاء الصالح فتسببوا في كساد بضاعة أهل البندقية... لتفتح الكاتبة بهذا المسار التاريخي حول الصراع على البحر وشق طريق جديد للخلاص، مجازاً لفكرة الغرق والهزيمة والحلول الصعبة التي قد تُجنب أهلها الهزائم، أو كما يقول «حسن الخادم»: «الغرق ليس دوماً تحت المياه، أحياناً يكون من هواء نتنفسه، وسفن أجنبية تحاصرنا، ولهفة لا تزول، ويأس لا ينتهي».

المصدر: الشرق الأوسط