ألفة يوسف: الباحثة العربية أحرجت الباحث الرجل وتجرأت على كسر التابوهات

"مجلة جنى"  ألفة يوسف: حركة النهضة وراء إقصائي.. والباحثة العربية أحرجت الباحث الرجل وتجرأت على كسر التابوهات

حاورتها: بثينة غريبي

منذ أطروحتها التي أهلتها لنيل درجة الدكتوراه، وكانت بعنوان «تعدد المعنى في القرآن»، والباحثة التونسية ألفة يوسف ما انفكت تسائل واقع مجتمعاتنا العربية من زوايا متنوعة وبأدوات ومقاربات متعددة، وفي كل مرة كانت تقدم مراوحة بين الإشكاليات التي تعتمل داخل النصوص وما يقابلها من قضايا حية في حياتنا اليومية. يشير مسار الباحثة إلى تعدد روافدها وانتقالها إلى مراحل جديدة وهو الفارق الذي نشعر به بين عملها الأول «تعدد المعنى في القرآن»، وعملها الأخير «وجه الله»، حيث تكشف عن رؤية جديدة للبحث العلمي منتقلة إلى فضاءات بحث جديدة.

عن هذا الطيف من المباحث والإشكاليات تحاورنا مع الدكتورة ألفة يوسف، من دون أن تغيب عنا سياقات الواقع التونسي، فالبحث العلمي يظل في النهاية مرآة من مرايا المجتمعات ترى فيها نفسها. وقد حاولت ألفة يوسف في كل مؤلفاتها أن تُعري جانبًا من هذه المجتمعات التي تراها إلى اليوم ذات روح قبلية وتقاتل باسم الأديان، وترجع ذلك إلى أسباب عدة.

يقودنا تشخيص ألفة يوسف للواقع التونسي العربي إلى مفهوم المؤامرة السياسية -الثقافية التي تمنع الشعوب العربية من التقدم، وترى أن هناك أشخاصًا ومؤسسات هدفها ليس تنمية الشعوب ولا تحقيق كرامتها، وإنما تدمير كل ذلك. في «حيرة مسلمة» هذا الكتاب الذي مضى على إصداره زمن طويل، لا تزال القضايا التي طرحها تثير جدلًا كبيرًا؛ من بينها قضية تعدد الزوجات، والمساواة في الميراث، والمِثليّة الجنسية، وغيرها من الموضوعات الاجتماعية التي تلهي الشارع العربي عن التفكير الإستراتيجي وتمنعه من حلحلة قضاياه الأساسية.

كما نتوقف في الحوار عند النزعة الصوفية لألفة يوسف التي تأكدت مع كتابها «وجه الله» حيث تكشف الباحثة عن موقع هذا التوجه ضمن مسيرتها البحثية.

الملحوظ أيضًا أن الباحثة التونسية ألفة يوسف ابتعدت في السنوات الأخيرة من جمهور وسائل الإعلام التقليدية: القنوات التلفزية والصحف وغيرها، لنجدها مكتفية أحيانًا بمشاركة مواقفها وتشخيصها للمستجدات الوطنية والعالمية على مواقع التواصل الاجتماعي. ونذكر أن من بين مؤلفاتها كتاب «أحلى كلام»… أو قراءة ذاتية جدًّا في الشتائم الفايسبوكية، وكانت قد أهدته للفايسبوكيين.

قبل الانتهاء من الكتابة الأخيرة لهذه المقابلة، حملنا الفضول إلى جولة في صفحة ألفة يوسف على الفايسبوك، أو حريٌّ بنا أن نسميها قناتها الإعلامية حيث تفصح عما لا يجرؤ الآخر حتى التفكير فيه، فالتقطنا مثلًا هذه التدوينة التي كانت تدعو فيها إلى إقامة جنازة وطنية لأحمد بن صالح قائلة: «لو كنت مسؤولة لأقمت لأحمد بن صالح جنازة وطنية… قد تختلف وجهات النظر في برامج الرجل ورؤاه وإستراتيجياته لكن لا أحد ينكر أنه من بناة الدولة التونسية».

تمثل هذه المقابلة، التي تسبق أشهرًا قليلة من الاحتفال بالعشرية الأولى للثورة التونسية، الفضاء الذي تقترح من خلاله الباحثة التونسية على قُرّاء «الفيصل» قراءة ميكروسكوبية دقيقة لموضوعات تثير الجدل في البحث، وتأتي على أهم القضايا الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية.

نلحظ أنك ابتعدت نوعًا ما من الحضور في أنشطة الحياة الثقافية التونسية في السنوات الأخيرة؛ فهل يتعلق الأمر بموقف؟ أو هل تفتشين عن وقت أكبر للبحث والتأليف؟

■ بالنسبة إلى الأنشطة الثقافية التونسية لا أعتقد أنني ابتعدتُ كثيرًا. أحاول أن أحضر كلما تمت دعوتي، ولكن ما يمكن أن أؤكده هو أن هناك إقصاءً ممنهجًا من وسائل الإعلام، ومن بعض الهياكل الثقافية. ليس هذا القول نوعًا من البارانويا، أو إيمانًا بنظرية المؤامرة، ولكن هذا ما قاله لي كثيرون من داخل الوسط الثقافي. أما سبب هذا الإقصاء فهو الموقع الذي يحتلّه الإسلام السياسي في تونس ووجهه الحزبي حركة النهضة، وفلك الناس الذين داروا حولها وتعاملوا معها. جعلني هذا الإقصاء أكتفي بنشر المؤلفات والتدوين على الفيسبوك، والمشاركة في وسائل الإعلام الأجنبية ضمن برامج ثقافية، وإلقاء المحاضرات خارج تونس، وبالطبع فمن هم خارج البلاد ليسوا تحت طائلة التعليمات السياسية نفسها التي تقدم للإعلام التونسي لكي يختار من يستضيف ومن لا يستضيف.

● في رأيك، هل أتاحت حرية التعبير المتوافرة منذ سنوات في تونس تطورًا في إنتاج البحث العلمي؟ وهل فرضت السياقات الجديدة توجهات بعينها على حساب أخرى أكثر أولوية؟

■ المشكل في البلدان العربية ليس في الباحثين. صحيح أن مستوى البحث قد تراجع بتراجع مستوى الجامعات، ولكن هذا ليس خاصًّا بالبلدان العربية، فهناك تحول كامل في العالم شمل أساليب المعرفة والوسائط التي بها تقدم المعرفة. المشكل في رأيي متعلق بقلة مؤسسات البحث الفاعلة؛ ففي البلدان الأجنبية، الغربية خصوصًا، هناك استشراف للمستقبل حيث تشتغل مؤسسات البحث والمعاهد مع باحثين ضمن رؤى إستراتيجية واضحة لما تريد أن تكون عليه شعوبها، وتبذل من أجل ذلك أموالًا طائلة وجهودًا في مجال البحث وفي الدرس. هذا الذي كان يقوم به سابقًا بناة الدولة التونسية زمن البورقيبية، على الرغم من أنه لم يكن هناك وقتها موضة المؤسسات البحثية، ولكن كان هناك ناس يفكرون في المستقبل ويحاولون بناء دولة وفقًا لمقاييس وقيم وإستراتيجية دقيقة.

● مع التحولات المتسارعة التي يشهدها الواقع العربي سياسيًّا واجتماعيًّا، هل يمتلك الباحث العربي المؤهلات الكافية ليقدم مقولات تفضي إلى مساعدة هذه المجتمعات على تحقيق رهاناتها في الكرامة والتنمية وغير ذلك…؟

■ اليوم ماذا نجد في البلدان العربية؟ نجد حالتين: الأولى هي حالة سياسيين أو أصحاب قرار في الشأن الثقافي والفكري لا يعنيهم أصلًا أن يفكروا في قضايا إستراتيجية لها علاقة بمستقبل الشعوب ولا بكرامتها ولا بتنميتها. هم أصلًا أشخاص هدفهم فقط الحصول على مناصب. هدفهم فقط الحصول على امتيازات خاصة بهم، إما على المستوى الفردي أو مستوى الأقارب أو مستوى الأصدقاء المقربين. ثانيًا هناك أشخاص ومؤسسات هدفها ليس تنمية الشعوب ولا تحقيق كرامتها وإنما تدمير كل ذلك، وهذا المقصود مما حصل في 2011م في تونس، ثم في ليبيا، ثم في سوريا وفشل. وكانت هناك محاولات لإرباك الجزائر. هناك من حولنا مؤامرات ثقافية- سياسية، لماذا أقول ثقافية سياسية، واجتماعية أيضًا؛ لأن من يريد أن يدمر شعوبًا لا يغير فقط نظامها السياسي، وإنما يقضي على ثقافة شعبها. يقضي على المنظومة القيمية لشعبها.

انظري اليوم من يتصدر الإعلام التونسي. هناك قنوات وإذاعات باتت قائمة على التفاهة. لنقل إن من حق الناس أن يغرموا بالتفاهات، ولكن هل هناك برامج مفيدة في المقابل؟ هل هناك برامج تعلم؟ هل هناك برامج تثقف؟ هل هناك برامج تحمل على التفكير؟ هل هناك برامج حتى إن كانت قائمة على المزاح والترفيه تسهم في نشر الوعي النقدي وتعلم الذوق؟ كل ما نجده هو هبوط بالذوق العام إلا في حالات نادرة لن أتوقف عندها لأنها نادرة. الإعلام التونسي الذي يصنع الرأي العام قائم على نشر العنصرية والسخرية من المختلف، وعلى غرس اللاقيم بإبراز أن النميمة أمر طبيعي، وأن الاعتداء على الآخر أمر طبيعي، وأن السخرية من الآخرين أمر مقبول إلخ إلخ… أين المثقفون من كل هذا، وقد غُيبوا ليتركوا المجال لمن يصنعون الرأي العام ويوجهونه توجيهًا يجعل هذه الشعوب غير قادرة على الوصول، لا إلى التنمية ولا إلى التطور ولا إلى بناء منظومة اجتماعية واقتصادية مستقرة.

تفسيرات شائعة وتقليدية

● لا يزال كتابك «حيرة مسلمة» أشهر أعمالك. أي علاقة تربطك به اليوم؛ هل هو مجرد نقطة في مسارك تجاوزتها أم لا يزال حاضرًا في حياتك الفكرية؟

■ صحيح، «حيرة مسلمة» هو أكثر الكتب شهرة. هو طبعًا مرحلة في المسار الفكري وهي مرحلة التأويل ومرحلة قراءة النصوص وإبراز الإمكانيات التفسيرية التأويلية الكامنة بالقوة في النص التي وقع التغاضي عنها لاختيار تفسيرات شائعة وتقليدية، أصبحت ذات صبغة مقدسة وكأنها من النص القرآني. والحق أني إلى اليوم ما زلت أعتمد أحيانًا التفسير اللغوي عندما يتصل بي الناس ليسألوني عن بعض الآيات أو بعض الأحكام. ومع التفسير اللغوي، هناك التفسير التاريخي والتفسير النفسي الذي مررته عبر مراحل متعددة، وهي وجوه كثيرة من التفسير ما زال بعض الناس مفتقرين إليها، وتظل القراءات متعددة بالضرورة لأن القرآن حمّال أوجه. لكن بالنسبة إليَّ شخصيًّا فأعتقد أن قراءتي للفكر الديني اتخذت مناحي أخرى، أهمها المنحى الصوفي الروحاني الذي لا ينفي القراءات التأويلية. لنقل: إن القراءات التأويلية التفسيرية تندرج في مجال عالم الظاهر، أما القراءات الصوفية التي سار فيها بحثي هذه السنوات الأخيرة فهي منذ كتابة «شوق» سنة 2010م وصولًا إلى كتاب «وجه الله» فهي تندرج في مجال الباطن.

● أين هي اليوم -في رأيك- تلك القضايا التي أثرتها في الكتاب، ومنها موضوع الميراث الذي أثار جدلًا كبيرًا السنة الماضية في تونس وغيرها؟

■ القضايا التي أثيرت في كتاب «حيرة مسلمة» ما زالت موجودة، وما زالت مطروحة إلى اليوم لم ينته الحديث فيها. إذا كانت قضية تعدد الزوجات التي تجاوزناها في تونس من سنة 1956م مع مجلة الأحوال الشخصية، ما زلنا نتحدث عنها الآن في بعض البلدان العربية الأخرى، بل حتى في تونس بعد 2011م هناك من رجع إليها فما بالك بقضايا الميراث والمثلية الجنسية. لكن الجميل والإيجابي والمتطور والمفيد هو أنها أصبحت قضايا مطروحة. في سنة 2008م عندما ألّفت كتاب «حيرة مسلمة» كان الحديث في هذه المسائل حديثًا سريًّا مسكوتًا عنه.

حتى وقتها كانت هناك بعض العائلات تختار أن تقسم الميراث بين أبنائها بطريقة متساوية وعادلة -وأحرص على جمع المساواة والعدالة في جملة واحدة- لكن ما كان الأمر يتصل بقضية مطروحة في الشأن العام. كذلك قضية المثلية الجنسية ففي المدة التي كتبت فيها الكتاب كان الحديث في الأمر منحصرًا في دوائر مغلقة، وأزعم أن كتاب «حيرة مسلمة» هو أول طرح لهذا الموضوع بهذا الشكل الواضح المباشر.

إذن هناك تطور في الحديث عن المسائل وهذا التطور جيد جدًّا؛ لأن بداية تفكيك القضايا لا يكون إلا بطرحها. أنت لا تستطيع أن تفكك قضية لا تتحدث عنها. لا تستطيع أن تفكك قضية مسكوتًا عنها. أتصور أنه في سنوات قادمة ستصبح مسألة المساواة في الميراث أمرًا بديهيًّا، وكذلك القضايا الأخرى عندما تفهم أن جوهر الأديان ليس قمعًا ولا إقصاء.

السعادة الدائمة

● هناك نزعة صوفية ظهرت بشكل واضح في كتابك الأخير، نريد أن نفهم هنا هل هذا التوجه مندرج ضمن منطق المسيرة البحثية، أم هو نابع من الخيارات الشخصية التي تؤثر في أطروحاتك كمؤلفة؟

■ كتاباتي لا تفصل بين الذاتي والموضوعي. أنا لم أدَّعِ يومًا أني باحثة موضوعية، أو أني باحثة مختلفة بالمعنى الأكاديمي، على الرغم من أني أكاديمية أصلًا. عندما أتحدث في الشأن الديني أعتمد الضوابط المنهجية الدقيقة، ولكن أعبر عن رؤية فردية للأمور. ومسألة الصوفية هي نتيجة التجربة التي مررت بها والتي بيَّنت لي أن القراءة التاريخية على أهميتها، والقراءة النفسية على عمقها، والقراءة اللسانية اللغوية على إفادتها، والتأويل عمومًا يظل محدودًا؛ أولًا لأن كل تأويل يفتح الباب بالضرورة لإمكان تأويلي آخر، وثانيًا لأن التأويل يتصل في ثقافتنا بالنص في حين أن ما يعنيني من منظور المتصوف هو طرح قضية الوجود.

طرح القضية الوجودية لا بالمعنى الفلسفي للوجودية (سارتر وكيركغارد) وإنما بالمعنى الروحاني لوجودنا. ما سبب وجودنا؟ من أين نأتي وإلى أين نذهب؟ وبالخصوص كيف نبلغ ذاك الاطمئنان بذكر الله؟ كيف نستحضر الله في كل لحظة؟ كيف نصل إلى الله؟ كيف نبلغ موضع أن نكون محققين لإرادة الله تعالى في الكون؟ وبعبارة أخرى أعمق وربما أوسع لأنها تتجاوز الأديان لتصل إلى الروحانيات عمومًا، كيف نحقق السعادة الدائمة أو كيف نحقق السكينة؟ هذا ما حاولت إبرازه في كتابي الأخير «وجه الله: ثلاثة سبل إلى الحق».

● في عالم اليوم، بنزعاته المادية والاستهلاكية، كيف يمكن بناء علاقة روحانية مع العالم، وهل يمكن أن تكون هذه العلاقة الروحانية خارج الدين؟

■ النزعة الاستهلاكية زادت في عصرنا، ذلك أكيد. ولكن النزعة الاستهلاكية أو ما يشابهها من نزوع إلى إشباع الرغبات المادية الفردية كانت دومًا موجودة مع الإنسان، ومع هذا فإن هذه الرغبات وتحقيقها لا يمكن أن يوفر للإنسان السعادة. فمن المعلوم أن المرء ما إن يحقق شيئًا ما ويحصل عليه حتى يفقد ذلك الشيء قيمته، وهذا ما حاولت أن أوضحه في كتاب «ناقصات عقل ودين» في فصله الأول، عندما ميّزت وفقًا للتمييز اللاكاني بين الحاجة والشوق. مثال بسيط: تريد أن تشتري سيارة، وما إن تشتري تلك السيارة حتى ينتهي ذلك الشغف المجنون بتلك السيارة، طبعًا تفرح بها ولكن تمر الرغبة إلى موضوع آخر. هذه الرغبة في الشيء الآخر هي ما يسمى بالشوق. الإنسان بطبعه قائم على الشوق؛ لذلك يعرف في أعماقه أن تحقيق جميع احتياجاته المادية مهما تكن لن يحقق له السعادة.

لذلك نجد أناسًا أغنياءَ جدًّا وحققوا ما يريدون ولكن مع ذلك ليسوا سعداءَ، بل بعضهم يبلغ حدود الانتحار. هذا البعد الروحاني هو جوهري في الإنسان وليس خاصًّا بإنسان العصر الحديث. الأديان طريق من طرق الروحانية إذا أُحسِنَ فهمها؛ لأنها هي أيضًا يمكن أن يُساء فهمها وأن تصبح طريقًا من طرق الاستبداد والتسلط باسم الدين وتعنيف الآخر. فالمرور إلى الجانب الروحاني للدين قد يكون طريقًا ولكن ليست الطريقة الوحيدة. وكما يقول ابن عربي: «الطرق إلى الله تتعدد بتعدد أنفس الخلائق». لم يقل تتعدد بتعدد أنفس المتدينين، وإنما تتعدد بتعدد أنفس الخلائق، فكل الناس مدعوون في نهاية مجال حيواتهم إلى أن يبلغوا هذه السكينة الروحانية والاطمئنان في عمق الإلهي.

● منذ عصر النهضة العربية، كانت هناك عودة عربية مكثفة إلى التراث. بعد قرابة قرنين كيف تقوّمين نتائج هذه العودة على صعيد الاستفادة الفكرية في حلحلة أزماتنا المعاصرة؟ هل نجح العرب في قراءة تراثهم قراءة مفيدة؟

■ العودة إلى التراث لم تكن عملًا متكاملًا ذا بنية جماعية. يعني مثلًا نذكر مشروع الجابري أو مشروع أركون، هي مشروعات فردية مهمة نعم، ولكنها ليست أكثر من ذلك. هنا أعود إلى ما طرحت في سؤال سابق من غياب الأطر الثقافية والمؤسسات والإستراتيجيات السياسية التي تحتضن قراءة التراث وتوجهه.

في الغرب قرؤوا تراثهم، حللوه، انتقدوه، استفادوا منه وساروا إلى الأمام. نحن ما زلنا نُداوِر في فلك علاقتنا بالتراث. بعضهم يدعو إلى قطع العلاقة بالتراث قطعًا تامًّا وهذا وهم؛ لأننا نحمل هذا التراث في ذواتنا، وبعضهم يدعو إلى أن نحيي هذا التراث مرة أخرى، أي أن نكون نحن نسخة ممن سبقنا، وهذا أيضًا أمر مستحيل لا يمكن تصوره، وهو يدخل في إطار الأوهام الصفوية والفانتازمات التي يتصور بها بعضهم الدخول إلى الفردوس المفقود. إذن نحن في حاجة إلى مؤسسات تدرس تراثنا دراسة فكرية معرفية تربطه ربطًا عميقًا بواقعنا وبحلحلة مشكلاتنا اليومية؛ لأني ما زلت أؤكد أننا لم ندخل زمن الحداثة أو ما بعد الحداثة إلا شكلًا فقط، وما زلنا في عقليتنا نحمل الروح القبلية وبعض قيم العصور الوسطى.

● كيف تجدين استعمال مناهج مثل التحليل النفسي والتأويلية والسيميائية والتفكيك مطبقة على التراث العربي؟

■ كل شخص يقرأ واقعه ويقرأ النصوص ويقرأ الحياة عمومًا وفقًا للمناهج المعروفة في عصره، فاعتماد التحليل النفسي أو السيميائيات أو الهيرمونيطيقا أو التفكيك أو غير ذلك أمر لا مفرّ لنا منه. الأمر يشبه استعمال أشعة إكس أو التقنيات الطبية المختلفة في قراءة صور الأعضاء الباطنية للإنسان. كل هذا ضروري لأننا في هذا العصر نتوفر على هذه الآلات الطبية الحديثة. الشيء نفسه في المجال الفكري، نحن نتوفر على مناهج توصلت إليها البشرية يمكن أن أسميها حديثة أو لنسمها ما نشاء، ولكن هي مناهج أتت نتاج تراكم فكري ونظري عميق للبشرية وهي على ذمة الناس لكي يقرؤوا بها كل شيء، بما في ذلك تراثهم أو على رأس ذلك تراثهم. فلا أرى أي مشكل، إن هي إلا مجرد أوهام تجعلنا نفصل أنفسنا عن الواقع في حين أنها جزء من هذا الواقع.

ما عاد للناس كثير من الصبر

● نتحدث دائمًا عن أزمة قراءة. كيف ترينها انطلاقًا من علاقة القراء بمؤلفاتك؟

■ طبعًا هناك أزمة قراءة، ولكن ليس بالمعنى المخصوص بهذا الكاتب أو ذاك. هذا العصر هو عصر التقنيات الحديثة بامتياز. الناس تقرأ بوسائط جديدة صحيح، ولكن قيمة الصبر بدأت تضعف بحكم هذه التقنيات الحديثة. أنت اليوم بضغطة زر يمكن أن تتصل بشخص. ما عاد للناس كثير من الصبر؛ لذلك ألحظ أنهم أكثر ميلًا إلى قراءة التدوينات أو إلى قراءة المقالات القصيرة منه إلى قراءة الكتب، بل أكثر من ذلك هناك من يقرأ أجزاء من الكتاب ولا يقرأ الكتاب كله. طبعًا لا أعمم، فما زال هناك إلى اليوم قراء ولكن عمومًا كثرة الاختيارات المتوافرة تشوش القارئ.

أنت تفتح الحاسوب فتجد اليوتيوب وتجد ملايين الفيديوهات والمقالات والصور، هذا كله يجعل من العسير على كثيرين العودة إلى المكتوب أو الكتاب بمعناه التقليدي رغم أنه أفضل مَن يُكوِّن الذات الثقافية، أفضل من يُكوِّن الذات الفكرية. أتصور أنه ربما قد تتغير أساليب التعامل مع الكتابة الإلكترونية حتى التدوينات.

● هل للدكتورة ألفة يوسف مخططات لبقية مشوارها كباحثة؟

■ هناك مثل معروف يقول: لا يأس مع الحياة، ولا حياة مع اليأس. بالنسبة لي، لا يمكن أن أحيا خارج التفكير، خارج القراءة والكتابة أو التعبير بأشكال أخرى من خلال المحاضرات والفيديوهات والتدوينات. عادة أنا لا أخطط لمشروعاتي البحثية لأنها كما قلت لك صورة عما يجري في حياتي. بما أني أُومِنُ أن الحياة تسُوسُ نفسها بنفسها أو بعبارة أخرى بما أني أومن أن الله تعالى هو الذي يحقق إرادته في الحياة عن طريقنا، فإنني لا أعرف شيئًا عن مستقبل البحث ولكن ما أعد به القراء هو أن أكون دومًا حقيقة لقيمة أساسية في كل ما أكتبه وهي قيمة الصدق. وأعتقد أن قيمة الصدق هذي هي التي تجعل علاقتي مع القراء علاقة وثيقة وعميقة ووطيدة…

● إلى أي مدى تراهنين على الباحثات التونسيات اليوم، وهل يوجد جديد حسب رأيك قادر على تحقيق الاستمرارية والربط مع ما أنجزتموه؟

■ أعتقد أن الجامعة التونسية قد أنشأت جيلًا من الباحثين والباحثات. سؤالك قصر الأمر على الباحثات، وهن قادرات على أن يأخذن المشعل ويواصلن ما بدأه جيلنا والجيل الذي سبقنا من أساتذة تتلمذنا لهم، على رأسهم الأستاذ عبدالمجيد الشرفي، ومحمد الطالبي رحمه الله، وسواهما.

يوجد انفتاح في البحث وشغف في البحث، ويوجد عمق في البحث، ربما المشكل الوحيد في الجامعة التونسية هو الهُوّة بين البحث النظري وإمكان استغلال ذلك البحث النظري في القضايا الاجتماعية والسياسية والثقافية والنفسية، أي في قضايا الواقع. وأتوقع أن يأتي يوم يعي فيه الساسة ضرورة إيلاء الأبحاث الجامعية ما تستحقه، لتكون نبراسًا للخطط السياسية.

لقراءة المرأة تلوين خاص

● هل تختلف هموم الباحثة العربية عن هموم الباحث الرجل؟

■ لا شك أن هناك همومًا مشتركة بين الرجل الباحث والمرأة الباحثة، لكن من منظور جندري. والجندرية تفرض علينا وضع الأمور في سياقها التاريخي والحضاري، فلا شك أن اندراج المرأة في البحث هو أمر حديث نسبي وما زال المخيال الثقافي والاجتماعي في البلدان العربية حتى في البلدان الغربية يولي المرأة مكانة دونية؛ لذلك هناك كثير من الباحثات اللواتي أدخلن هذا الشأن الجندري في أبحاثهن وفي مجالات درسهن.

هذا لا يعني أن الرجال لا يعتنون بهذه المشاغل، ولكن شئنا أم أبينا فإن قراءة المرأة للقضايا الجندرية لها تلوين خاص، ولها إضافة ضرورية إلى التاريخ البشري، الذي هو تاريخ كتبه في جُلّه رجال. ليس معنى هذا أن النساء لم يكن يشاركن في صناعته، ولكننا نتحدث لا عن الأحداث وإنما عن ترميزها، لا عن الأحداث وإنما عن تمثيلها، وتأويلها وتكييفها لغويًّا. اليوم تحاول المرأة أن تغدو كاتبة التاريخ، وذلك من خلال مساهمتها الفكرية أيضًا.

● ما المختلف الذي قدمته الباحثة العربية؟

■ ربما أجبتك عن بعض هذا السؤال في السؤال السابق. الباحثة العربية أضافت أشياء كثيرة مختلفة؛ لأنها أعطت صوتًا للمهمشين. شئنا أم أبينا المرأة في التراث العربي الإسلامي، ولكن أيضًا في التراث البشري، مهمشة. اليوم المرأة أصبحت ذاتًا أو تنشد أن تصبح ذاتًا. وأصبحت من خلال البحث تعبر عن ذاتها وأصبحت تناقش قضايا كانت سابقًا من المحرمات، وما زال كثير من الرجال يجدون حَرجًا في أن تناقش النساء قضايا مثل قضايا الجنس مثلًا.

في كثير من الأحيان أتلقى رسائل مثل: أنتِ لا تستحين من الحديث في هذه المسائل! وما إلى ذلك من الكلام المشابه. هناك كسر للتابوهات لدى الباحثات العربيات لبناء صورة المرأة بصفتها ذاتًا قادرة على قراءة الواقع، وعلى الإدلاء بدلوها وتقديم آرائها فيه، ووجهة نظر جديدة أو مختلفة، تقوم على تراكم التراث الفكري البشري، لا أقول أفضل أو أقل، فليس الأمر متعلقًا بالمعيارية. هي وجهة نظر أخرى مختلفة، تُعَدّ إضافة نوعية إلى التراث الفكري البشري.

● ما المشروع الذي تشتغلين عليه حاليًّا؟

■ من طبعي أني لا أحب الحديث عن مشروعات لم تكتمل بعد. عندما تكتمل هذه المشروعات ستكون إن شاء الله بين أيدي القُراء، وستكون لَبِنَةً أخرى تنضاف إلى مشروع فكري صغير دام وأخذ مني أكثر من عشرين سنة من حياتي، ولا أزال إلى اليوم أتابع تطوره شيئًا فشيئًا. ربما يكون الآتي مؤذنًا إما بتطور جديد، ولكن لا أتصور لأن التصوف أرقى ما يمكن أن يصله الإنسان في المجال الروحاني، أو بمدخل مختلف بعد محاولة «وجه الله» التي كانت دليلًا نفسانيًّا روحانيًّا يقود إلى السعادة والسكينة. ربما يكون هناك مدخل آخر من منظور مختلف، ولكن في السياق العام نفسه.