نيللي بلاي: الصحافيّة المجنونة التي عاشت حياتها كأنها بطلة روائية!

" مجله جنى " لم تجلس يوماً خلف المكتب، إيماناً منها بأنّ الصحافي يعيش في الشارع، وسط "زمهرير" الأيام وتقلّباتها. 

وسط أحاديث الهوى، وغَدر الحياة.

كانت تتعالى على الموضوعات الثقافية، وتضحك عندما يطلب منها الكتابة عن الخياطة والحياكة، أو تغطية الأمسيات الشعريّة الرومنسيّة في إطارها، والورديّة حتى وهي في "عزّ" انخطافها الشَرس والدمويّ احياناً!

في تلك اللحظات التي كانت تُستفز فيها وتوضع رباطة جأشها تحت المجهر من خلال اتهامات تأتي على شكل: "مين مفَكرة حالِك؟"، لم تَظهر طبعها الصاخِب، ولم تُجب بغضب.

 

كانت تكتفي بتزيين وجهها "المُتمرّد"، بابتسامة صغيرة، قبل أن تقول بهدوء يخفي خلفه عشرات المغامرات والجنون الخلاق، "أيها السادة، أنا نيللي بلاي!".

إليزابيت كوكران، المعروفة باسمها المُستعار، "نيللي بلاي"، تعود إلى الذاكرة في كل سنة في مثل هذا الوقت، ويحتفي الغرب بولادتها في أيار، هي التي كانت أول امرأة تَقتحم الصحافة الأميركيّة العام 1885، وغيّرت أسلوب كتابة التحقيقات لتجعلها أكثر إنسانيّة. 

كانت عبارتها المُفضلة: "علينا أن نعيش الألم لنكتب عنه"!

ولكن البعض كان يؤكّد أنّ بلاي في الواقع تخشى الملل أكثر من أي شيء آخر في الحياة، ومن هنا إصرارها على العيش كأنها بطلة رواية مُشوّقة تُجاور الخيال.

هذا الخوف الراعب من الملل والرتابة دفعها ذات يوم من العام 1889 إلى اتخاذ قرار مصيريّ أدخلها كتاب التاريخ، حيث دوّنت فيه بعض صفحات لم يغلّفها غبار النسيان. 

ففي تلك السنة، وهي لم تتعدَ الـ25 بعد، قرّرت أن تقهر الكاتب الفرنسي الكبير جول فرن، وتتفوّق على شخصيّة روايته: "حول العالم في 80 يوماً"، فيليس فوغ، وتجول العالم خلال 72 يوماً!

وعندما التقت فرن الوقور، وحاورته بثقة يعرفها الصبا جيداً، نَظَر إليها الكاتب الفرنسي بمحبّة أبوية، وقال مُبتسماً، "حبيبتي الصغيرة، بقدر ما أدعم اندفاعك، لا أعتقد أنّه في إمكانك التغلّب على بطل كتابي، فيليس فوغ، وأن تجولي العالم في أقل من 80 يوماً"!

أمّا زوجته فنظرت إليه بهدوء قائلة: "جول، صدقّني، هذه الفتاة ستجعل أبطال قصصك يبدون سخفاء!".

 

ارتدت بلاي العشرينيّة ثوباً رثاً ومعطفاً بنياً، ووضعت بعض الأغراض الأساسيّة في حقيبة صغيرة، وجالت العالم سيراً، وفي القطار والباخرة، يُرافقها قرد صغير واجه معها الأخطار والعقبات على مدى 72 يوماً! 

كانت الصحف العالميّة تُتابع هذه الرحلة التاريخيّة بأدق تفاصيلها.

وكانت تنتظر بخبث أن تفشل بلاي المُعتدّة بنفسها "أكتر من اللازم" على أمل أن "ينكسر راسها شي شوي"!

ولكن القدر ابتسم للشابة العاشقة للمغامرات والتشويق وحَضَن تهوّرها الشبابيّ!

وتمكّنت نيللي بلاي، التي خشيت الملل أكثر من الموت، من أن "تهزم" شخصيّة فيليس فوغ الروائيّة، وسرقت ضحكة سعيدة وقويّة من جول فرن الذي هتف قائلاً لزوجته: "لن يَشهد التاريخ على فتاة مُماثلة قبل فترة طويلة، وطويلة جداً"!

ولم تتوقّف بلاي عند هذه المُغامرة، بل أضافت إليها مُغامرة جديدة، وبدعم هذه المرّة من الناشر جوزف بوليتزر الذي قال عنها أنهم أهم صحافيّة دخلت مكاتبه.

 

وفي المغامرة الجديدة، دخلت بلاي إلى مصحّة للأمراض العقليّة اعتبرها البعض الأكثر رعباً في نيويورك، وعاشت فيها 10 أيام مع النساء اللواتي عوملن، بحكم أمراضهن العقلية، أسوأ معاملة يُمكن أن يتخيلها العقل. 

وخرجت من المصحة الأقرب إلى جحيم، وفي جعبتها سلسلة من التحقيقات هزّت الرأي العام، وطلب أبناء نيويورك بإقفال هذا المكان الراعب.

ونجحت نيللي بلاي مرّة أخرى في التفوّق على الملل والرتابة.

العام 1885 تزوّجت من المليونير روبرت سيمان، وعاشت الرفاهيّة "ع أصولها". ولكنها كانت تحلم دوماً بالعودة إلى مغامراتها، وكانت تهرب من الواجبات الاجتماعيّة واللقاءات الرائجة في الأوساط النيويوركيّة المُخمليّة.

فإذا بالقدر يُعيدها مرّة جديدة إلى عالم القلم والكتابة "ع الأرض".

 ومع اندلاع الحرب العالميّة الأولى العام 1914، كتبت أهم التحقيقات والأخبار المُباشرة من ساحة الحرب الدامية، وصارت أول مُراسلة على الجبهة!

وعندما اعتقلها الجيش البريطاني واتهمها بالتجسّس، ابتسمت تلك الإبتسامة الصغيرة التي تميّزت بها عندما كان تُستفزّ.

وردّدت جملتها الشهيرة بهدوء "خطير":

"أيها السادة لستُ جاسوسة، انا نيللي بلاي!".