في ذكرى رحيل ناجي العلي

" مجلة جنى " "اللي بدو يكتب لفلسطين، واللي بدو يرسم لفلسطين، بدو يعرف حالو: ميت".. لعل هذه المقولة التي نطقت بها شفتي رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي، كانت ترسم طريقاً واحد الاتجاه لكل الجناة المنخرطين في هذه الجريمة.. فالجناة هم الضحايا، وجريمتهم هي حب فلسطين.

شبح الموت، الذي منح العلي تذكرة الغياب قبل ثلاثين عاماً من اليوم، فشل في تصفية يتيمه الورقي حنظلة، فصبي العشرة أعوام، الحافي القدمين، المجهول الوجه، ظل رمزاً للهوية الفلسطينية، وتحدي الظلم، إلى يومنا هذا.

يخبرنا ناجي العلي عن حنظلة بالقول:

"ولد حنظلة في العاشرة في عمره وسيظل دائما في العاشرة من عمره، ففي تلك السن غادر فلسطين وحين يعود حنظلة إلى فلسطين سيكون بعد في العاشرة ثم يبدأ في الكبر، فقوانين الطبيعة لا تنطبق عليه لأنه استثناء، كما هو فقدان الوطن استثناء. واما عن سبب تكتيف يديه فيقول ناجي العلي: كتفته بعد حرب أكتوبر 1973 لأن المنطقة كانت تشهد عملية تطويع وتطبيع شاملة، وهنا كان تكتيف الطفل دلالة على رفضه المشاركة في حلول التسوية الأمريكية في المنطقة، فهو ثائر وليس مطبع. وعندما سُئل ناجي العلي عن موعد رؤية وجه حنظلة أجاب: عندما تصبح الكرامة العربية غير مهددة، وعندما يسترد الإنسان العربي شعوره بحريته وإنسانيته".

تاريخ ميلاد ناجي العلي _كحال قاتله_ ظلا مجهولين، لكن على الأرجح أن ولادته كانت في عام 1937 في قرية الشجرة الواقعة بين طبريا والناصرة، هاجر العلي مع عائلته عام 1948 إلى جنوب لبنان بعد احتلال إسرائيل لفلسطين، وهناك عاش في مخيم عين الحلوة إلى أن تم تهجيره مجدداً وهو في العاشرة.

بعد عين الحلوة، لم تذق حياة العلي طعم الاستقرار، حيث اعتقلته قوات الاحتلال الإسرائيلي وهو صبي بتهمة الأنشطة المعادية للكيان، فاكتست جدران زنزانته برسوماته التي نقلها إلى كل سجن يستضيفه.

سافر العلي إلى طرابلس، وحاز على شهادة ميكانيك في السيارات. أما عائلياً فقد تزوج من وداد صالح نصر من بلدة صفورية الفلسطينة وأنجب منها أربعة أولاد هم خالد وأسامة وليال وجودي.

يعود الفضل إلى الصحفي والأديب الفلسطيني غسان كنفاني بنشر أولى لوحات العلي في مجلة ’الحرية‘ العدد 88 في 25 سبتمبر 1961، حيث كان كنفاني قد زار مخيم عين الحلوة وشاهد ثلاثة أعمالٍ للفنان، أما اللوحة فكانت خيمةً وعلى رأسها يدٌ تلوّح.

في عام 1963 سافر ناجي العلي إلى الكويت وعمل محرراً ورساماً ومخرجاً صحفياً في أكثر من صحيفة مثل ’الطليعة الكويتية، السياسة الكويتية، السفير اللبنانية، القبس الكويتية، والقبس الدولية‘. وهناك، ظهرت شخصية حنظلة لأول مرة عام 1969 في جريدة السياسة الكويتية، ومنذ ذلك الوقت، تحولت هذه الشخصية إلى توقيع لرسومات الفنان، وأصبح حنظلة رمزاً للقضية الفلسطينية.  

لم يكن حنظلة الشخصية  الوحيدة التي ابتكرها العلي، إذ تكررت في رسومه، شخصية ’ فاطمة ‘ المرأة الفلسطينية التي لا تهادن، والتي تمتلك رؤية شديدة الوضوح تجاه القضية وطريقة حلها، بخلاف شخصية زوجها النحيل ذي الشارب، والذي ينكسر أحياناً.

إلى جانب هاتين الشخصيتين توجد شخصيتان أخرتان: الأولى شخصية السمين ذي المؤخرة العارية والذي لا أقدام له، ويعبر عن القيادات الفلسطينية والعربية المرفهة والخونة الانتهازيين. والثانية هي شخصية الجندي الإسرائيلي صاحب الأنف الطويل، الذي يكون مرتبكا في أغلب الحالات أمام حجارة الأطفال، وخبيثاً وشريراً أمام القيادات الانتهازية.

الرحيل الغامض كان عنوان المحطة الأخيرة في حياة الرسام الفلسطيني، ففي الثاني والعشرين من تموز عام 1987 فتح شاب مجهول النار على الفنان في غرب لندن وأصابه تحت عينه اليمنى، فدخل العلي في غيبوبة استمرت لأسابيع حتى وفاته في 29 اغسطس 1987، عن عمر يناهز 51 عاماً.

تعددت أصابع الاتهام الموجهة لقتلة ناجي العلي، فبعضها أشار إلى الموساد الإسرائيلي، وأخرى أشارت إلى أنظمة عربية بسبب رسومه التي سخر فيها من السياسات في الشرق الأوسط. كما طالت تلك الأصابع بعض الحركات الفلسطينية، إلا أنها النتيجة ظلت واحدة: قاتل العلي مازال مجهولاً إلى يومنا هذا.

دُفن العلي في لندن، بعيداً عن أمنيته بأن يُدفن بجوار أبيه في مخيم عين الحلوة، فاحتضنت ثراه مقبرة بروك وود الإسلامية وقبره يحمل الرقم 230191.