التفاعل الواقعي في أعمال التشكيلية التونسية إنصاف الغربي

" مجلة جنى " تكمن سحرية المنجز الواقعي المعاصر لدى التشكيلية إنصاف الغربي في اعتمادها على التمظهر الجمالي المتنوع، واقتناصها لجماليات المساحة في انسجام تام مع الفراغ، واعتماد التقنيات المعاصرة لصناعة الأشكال وتوظيف الألوان، إنها عناصر تقود إلى تأليف عوالم تشكيلية للبورتريه ومفرداته، فغالبا ما يمنحنا الفن الواقعي إحساسا بالتنوع في المادة الفنية.

استعملت إنصاف الغربي بعض الأشكال الشخوصية ومنحتها أبعادا ثقافية واجتماعية، ووشمتها بمناحي جمالية، مثل جماليات التباين والتناغم على مستوى الشكل واللون استجابة للضرورات الفنية، وهذا بُعد واضح ومباشر في تجربة المبدعة، يؤكد تفاعلها الصريح مع حيثيات الفن الواقعي باستعمال بعض المواد التعبيرية التي تتطلب لونا تشكيليا متخصصا، ينبني على قاعدة ثابتة، باختيارات وتوجهات صريحة ومباشرة، تنتفض ضد الجاهز. لكن في القاعدة النقدية؛ فإن الفنانة تركن نوعا ما إلى التسطيح، والبساطة في الأسلوب البنائي والتكويني، فضلا عن غياب الدقة في استعمال الظلال، حيث يتم تغليب بعض الألوان وتسطيح الأشكال، مما يشوش على قوة الأعمال. وإذا كان الفن الواقعي يتضمن مفاهيم الضوء ويتفاعل معها بشكل أساسي، فإن تضمينه بشكل جزئي في أعمال الفنانة إنصاف يحد من قوة التعبير والترميز، إلى ما ترغب إرساله إلى القارئ بقدر ما يستدعيه العمل الفني من لوازم تتمظهر من ملمس الصورة البصرية، وتَوافقها مع المعايير الفنية التي تروم الأبعاد الرمزية والأبعاد الموضوعاتية والأبعاد التقنية، إلى جانب النقص في التكوين الجمالي للفضاء، وعدم إبراز بعض قواعد المنظور.. حتى لا تبقى في مؤخرة الوعي، فتحوّل الصورة الواقعية إلى موضوعات أقل أهمية من حيث القراءة، ومن حيث ما تحتوي عليه من أفكار. وعلى الرغم من ذلك، فالفنانة إنصاف الغربي تتغيى في منجزها التشكيلي أسلوبا واقعيا يميل إلى الخصوصية، لتسجل حضورها بقوة في الساحة التشكيلية. فأعمالها تحمل خصائص فنية جديرة بالفحص والمتابعة النقدية الجادة، لأنها تستلهم من الفن مكوناته وعناصره ومراميه الإبداعية، يتضح ذلك من خلال عدة توظيفات أساسية، منها المساحة والتركيب واللون والفراغ، والحركات والسكنات والكتل، وبعض المفردات التي تنتج الحركة وتقود إلى إنتاج فني صادق متناسق يضفي على أعمالها الفنية قيمة جمالية. فضلا عن خاصية التنوع في المادة التشكيلية والمضامين المضمرة التي تحتل في أعمالها الفنية مكانة خاصة. ويتبدى أن هذا البعد متشكل في تصورات المبدعة مما يحيل إلى بعض التعابير والدلالات والمعاني والأساليب النوعية التي تضرب في عمق تشكيلاتها بمتانة ووهج. لذلك فهي تتجه في منجزها الواقعي إلى صنع أشكال تنقل الواقع بلغة تعبيرية تقدم مشهدا مختارا للواقع وللمواضيع التي تشتغل عليها بصور جمالية، لأن الجمال يرتبط بالمدركات الواقعية، من خلال الصور التشكيلية البصرية المدعمة بالاجتهادات وبسط التصورات والرؤى الذهنية وبثها في النسيج الإبداعي. إن من ذلك ما يُظهر أعمالها ذات إيحاءات دالة على معاني ودلالات. فالمبدعة إنصاف تستطيع أن تمنح القارئ راحة بصرية بتعمقها في صلب المادة الواقعية. فهي تُبدي مجموعة من الأشكال في صيغ متنوعة وبألوان منتقاة بدقة، وتلحق بها بعض المفردات التشكيلية التي تسمح فنيا بنسج المادة التعبيرية عن طريق دمج بعض المواضيع أو فصلها، حيث تتضح معالمها بادية أثناء التدقيق والتمحيص. فمُجمل ما تحمله تقنياتها من تغيّرات في هذا الاتجاه، يجعل من المادة الجوهرية في معظم أعمالها خاصية جمالية يؤطرها التنوع الإيحائي والقدرة على تنويع المنحى التعبيري مما يسهم في تعددية التأويل، ويؤطرها كذلك التركيب بتقنيات تجمع بين المظهر الجمالي والتعبير بأسلوب واقعي، لتتبدى مختلف الجماليات مضمرة في التوزيع اللوني وفي الشكل والحركة. وبذلك فهي تحرر أعمالها من بعض القيود وتعبر بتلقائية وتؤسس جسر التفاعل مع العمل الواقعي بأدوات وأنساق دلالية أكثر ملاءمة وأكثر مطاوعة للحس البصري، حتى تقف المادة والبصر على مستوى واحد. وهو ما يحيل إلى التعددية المتناسقة التي تفصح عنها هذه الاستعمالات التي تبرر في الآن نفسه قدرة المبدعة ومهارتها على توظيف الخطاب التشكيلي الواقعي بمراس جمالي رائق.

(القدس العربي)