سيرة مدينة عراقية كما يرويها تاجر يهودي

مجلة جنى - توطدت علاقات السرد بالأقليات الدينية العراقية بشكل مباشر، إذ بدأت هذه القضية تتواتر بين عمل روائي وآخر وحضورها القيمي يشكل لمحات سردية لا مناص من قراءتها برؤية الأحداث عينها التي تسببت بتدوير الهوامش على المتون، وآخرها صدور رواية “حمّام اليهودي” للروائي علاء المشذوب والتي انطلقت من هذه الأرضية التي ما تزال طيّعة للكتابة بالرغم من تكرارها في الروايات العراقية، لكن هذه المرة يسعى المشذوب إلى معاينة الواقع اليهودي في مدينة كربلاء ما قبل سنة 1920 عبر شخصية مركزية ساردة لكل الأحداث التي تناولتها الرواية، وهذا الابتعاد الزمني الذي تفصلنا عنه أكثر من تسعين سنة كان محكوماً بمستويات فنية متعددة ليس أقلها الوثيقة التاريخية بمختلف صنوفها السياسية والاجتماعية والاقتصادية لتوكيد اجتماعية المكان الكربلائي والظروف الخارجية التي أحاطت به.

قصة المكان

“حمّام اليهودي”، الصادرة عن دار سطور بغداد- 2017، سردية يهودي عراقي استوطن كربلاء وأحبّ المدينة وعاش كل تفاصيلها اليومية والاجتماعية وطقوسها الدينية وتشبّع بها كلياً من دون أن يترك يهوديته، فكان منتمياً للمكان لا بوصفه طارئاً بسبب دينه المتعاكس مع دين المدينة ومذهبها المعروف، بل كان أحد أركانها الشخصية بوجاهته الاجتماعية وحضوره المؤثر، فتمكن في فترة قصيرة من أن يشتري بيتا لأسرته، ومن ثم يفتح محلا لصياغة الذهب، وبالتالي يكبر طموحه ليبني حمّاماً عاماً في المدينة، غير أن الحمّام لم يُكتب له النجاح بسبب طابع المدينة الديني المقدس واعتبار اليهود “أنجاسا” ولا يجوز للمسلمين أن يتحمموا فيه..!

ومع هذا التعامل الفج؛ وهو طبيعي ومتوقع في مدينة محكومة بالأساطير الدينية، لم يتخاذل هذا اليهودي وعدّ هذه المهيمنة الدينية المتواترة حالة ينبغي له أن يتصرف بموجبها من دون أن تحبط آماله. لكن ليس الحمّام هو القصة الرئيسية في الرواية، ويمكن القول إنه لا توجد قصة أصلاً في الرواية، ولا يوجد صراع ظاهري أو باطني ولا دراما سردية تتشابك خيوطها مع بعضها البعض، إنما يمكن أن نعدّها سيرة ذاتية ليهودي عاش أحداث كربلاء وبغداد والعراق في تلك الحقبة التي شهدت تقلبات سياسية كثيرة هدّدت الوجود اليهودي في البلاد على نحو مباشر منذ احتلال العراق من قبل القوات البريطانية، وما رافقها من دعوات تبشيرية ليهود العراق بالذهاب إلى فلسطين كأرض لميعاد اليهود.

يعقوب أفندي اليهودي السارد الوحيد في الرواية هو الشخصية المحورية التي تدور الأحداث من خلالها والمهيمن الصوتي الشامل لها، فيكشف بنية مدينة كربلاء الأسطورية بإرثها الديني العميق وطقوسها المعتادة ومجتمعها الصغير بكل تفاصيله القديمة، مثلما يعكف السارد على إضاءة شخصيات المجتمع الكربلائي وسادته وسدنته ونسائه وعلاقاته المتجذرة بالمكان، كما يعرّج كثيراً على إضاءة العراقيين اليهود وعلاقاتهم التجارية وتطلعاتهم إلى بناء علاقات متينة بالمجتمع المسلم الذي ينتفض عليهم في نهاية الأمر؛ ربما بسبب أصابع خارجية حاولت فسخ الثقة بين الجانبين لتهجير اليهود من العراق بالرغم من حبهم للوطن والمجتمع العراقي الذي عاشوا فيه. وتلك الانتفاضة الكبيرة التي دُبّرت على اليهود العراقيين كسرت حلم الهامش المتطلع إلى توثيق بقائه الطبيعي على الأرض-الأم.

الصوت الواحد

يعقوب أفندي الذي صار إحدى الشخصيات اللامعة في المجتمع الكربلائي بسبب ثرائه وحسه التجاري شخصية راسخة كرّسها المؤلف بطريقة احترافية وشاء لها أن تكون هكذا لإثبات عراقيتها قبل يهوديتها، وهو أمر يُحسب لصالح هذه الشخصية التي تحولت إلى شخصية اجتماعية لم تتأثر بالظروف الكثيرة التي أحاطت بها، بالرغم من ولده “اليسع” الذي كان يحمل مشروع هجرة إلى إسرائيل وأن زوجته مريم خاتون كانت هي الأخرى شخصية معقولة توازي زوجها في الطيبة والانتماء إلى المكان الكربلائي المشخّص سلفاً في وعيها كمكان طقسي–ديني ينتمي إلى تاريخه المعروف، فمكان العشرينات من القرن الماضي كما بدا من التسلسل السردي كان مكاناً جامعاً للأقليات والأعراق والطوائف من دون أن يكون مكاناً متسيداً لذاته ومستقلاً بمذهبيته.

حاول المشذوب أن يقدم صورة بيضاء عن تلك المرحلة برصد الهامش وتوسيعه عبر عدسة سردية لامّة لأطراف المكان في نمطٍ سردي حافل بالمتعة والمعرفة التي استوجبها نص روائي كوّن رصيده اللغوي والفني من تشكيلة شخصيات قليلة حينما انتقل إلى الهامش الاجتماعي-الديني الذي ظل مغيباً فتراتٍ طويلةً لأسباب سياسية معروفة، وهذه الرواية تسعى إلى كشف الواقع اليهودي في مدينة كربلاء ما قبل سنة 1920 حينما زاوجت بين الواقع المحض وخيال السرد الممكن لإنتاج مثل هذه الذخيرة السردية التي توفرت على المعرفة اللمّاحة لحياة اليهود العراقيين.

أعتقد أنه لا يمكن التدخل في طريقة سرد الأحداث، فهذه من مهمة المؤلف الذي بدا ساردا بصوت واحد مما جعل من شخصية يعقوب أفندي طاغية كمهيمنة روائية، كما أن المؤلف حينما اعتمد السرد بالصوت الواحد أو السارد العليم بكل شيء قد شكّل وجهة نظر واحدة لأحداث سياسية واجتماعية كثيرة، وكان لهذه الهيمنة الصوتية الواحدة أثر في تحجيم بقية الأصوات التي ترددت في الرواية، وواضح في الكثير من الفصول أن المؤلف تدخل في إنشاء علاقات قسرية مع المعلومات التاريخية التي بدت إلى حد ما خارجة عن سياقات السرد وكادت تضعف بعض الفصول.

“حمّام اليهودي” سردية مصدرية لتاريخ مدينة كربلاء اجتماعياً وتجارياً ودينياً ووقفت على خفايا كثيرة ومعلومات اكتظت الرواية بها كمعرفة لا بد منها لإعطاء القارئ فسحة كبيرة من المعلومات الوافدة آنذاك وفي تلك الفترة المغيّبة عنه، مثلما توسعت الرواية في إيلاء الطابع الديني أهميته لكربلاء كونها مدينة مقدسة تاريخيا، وبالتالي كان المؤلف محيطاً بمعلومات كثيرة منها الديني – الطقسي ومنها السياسي ومنها التجاري الذي عرفت به كربلاء بسبب طبيعتها الدينية، لتكون هذه الرواية غرّة سرديات المشذوب.

(العرب)