شاعرات تَحَرَّرْنَ بالقصيدة

شاعرات تَحَرَّرْنَ بالقصيدة..
جميلة عبد الرضا.. طفولة المعنى المراوغ

تتجسد سمات التمرد، وملامح الرغبة فى التحرر والانطلاق، فى ديوان "يشدنى المكان.. يكسرنى العطر"، للشاعرة اللبنانية جميلة عبد الرضا (دار النهضة العربية، بيروت، 2017)، فـ"الصعود" هى الكلمة الأولى التى تستهل بها الشاعرة قصائد المجموعة، إذ لا إطار يحكم المشهد، مثلما أن الحياة برمتها يجب ألا تخضع لقوانين وقيود. تقول الشاعرة:

"أصعدُ منى كطيفٍ
كنهر متعرج
أزدادُ نحولًا كلما تُقتُ إليك
أنكسرُ فى الضوء
وأرتعش فى موازيني
كلما من أقصاى إلى أدناي
تماديت"

تستهل جميلة عبد الرضا الإهداء بكلمتين؛ هما: "أوّلكَ وآخري"، فاردة البساط للذات الشاعرة لكى تكون هى الأرض وحدها، وتكون كذلك فضاء للتجربة الخصيبة، فى ظل غياب الآخر المتشكك بوجوده، والعالم الذى قد انتهى، وفق أقرب الاحتمالات المتاحة: "هذا الكتابُ أُهديه لي؛ من أَوَّلى إلى آخري".

تتأرجح الذات متنقلة، فتصعد كأنها طيف فى حين، وتنكسر أحيانًا كشعاع ضوء بلغ الاختناق. وفى تماديها فى الحراك، تزداد نحولًا كمشتاقة غريبة. هى بداية الرحلة، وهى أيضًا غاية الوصول. هذا الانغماس الكلى فى الداخل، يخفى فى طياته انسجامًا توحُّديًّا، بقدر ما يكمن فى طياته توقٌ إلى راحلين، أو إلى من لم يكونوا موجودين أصلًا. التصالح مع هذه الوحدة المطبقة يبدو أملًا تزهو الذات ببلوغه، مثلما أنه ألم فى الوقت نفسه، تقاسى الذات ويلاته: "أصعدُ منى كطيفٍ/ كنهر متعرج/ أزدادُ نحولًا كلما تُقتُ إليك/ أنكسرُ فى الضوء/ وأرتعش فى موازيني/ كلما من أقصاى إلى أدناي/ تماديت".

الشاعرة  جميلة عبد البرضى

تواصل الشاعرة جميلة عبد الرضا، فى ديوانها "يشدنى المكان.. يكسرنى العطر"، الذى يأتى بعد ديوانيها "أجدلُ نهرًا كى لا أغرق"، و"سبع مرايا لسماءٍ واحدة"، نسج صمتها بالكلمات، بوصف ذلك الصمت هو الشاهد الذى لا تتغير شهادته أبدًا، عند سقوط الزمن، أو تعدد مراياه. 

فى نصوصها المكثفة التى تدنو من الخمسة والسبعين، تقبع الشاعرة رهينة عزلتها، وتبدو مشدودة إلى مكان ما، لكن العطر يكسرها كلما حاولت التحرك نحوه. قد تجرب الذات الشاعرة الاستعانة بالآخر، وبالقصيدة، وبالعشق، سعيًا إلى تمرد ربما لم تألفه من قبل، لكنها أحبته لدى العصافير والشلالات. إن رفض الأمر القائم، هنا، قد يتجاوز الاعتراض عليه، إلى أمر أكثر إيجابية، هو خلق وضعية جديدة أو متنفس يليق بالرئتين. بالكلمات مثلًا، وهى أضعف الإيمان، يمكن أن يصير الخواء حريرًا، وأن تحتشد الغزلان فى مطلع الشفاه. هكذا لا يمكن للدروب أبدًا أن تؤجل مجيء المدن: "ما زلتُ وحيدة/ رغم الشعر/ رغم العصافير المنفلتة/ بين عينيكَ وعينيّ/ ورغم البرارى المحرّضة للقصائد/ ما زلتُ وحيدة كسنونوة زرقاء/ كلما قطفتُ سماء مسقوفة/ يسكبنى الحبُّ شلالًا/ على السطر".

تمشى الذات الشاعرة بذهول منسدل، ولأن الأسرار مفاتيح نجوم، يصير ممكنًا إلقاء الأحزان فى صناديق فارغة. هكذا، يفضح الليلُ الوشوشات، وتفتح الشاعرة لقلبها دهشة الأزرار. فى مثل هذه الطقوس السحرية، وبرهافةِ الليْلك، تستطيع امرأةٌ أن تمر من قمةِ الزنبق، وتُجرِّحُ بركبتيها الليلَ، حتى الصلاة. هذا هو معنى أن الروح الشعرية، تسمو، وتخفّ: "ريشةٌ أنا لا أكثر/ أمشى بذهولٍ مُنْسدلٍ/ على الكتفين/ وأعترفُ بأنَّ ثيابَ السهرة/ لم تسعفنى بهديةِ الغريب/ ولا أسعفتنى رسائلُ الشتاء/ فأكتبنى بخطِّ اليدِ السمراء/ أكتب قصائدَكَ بحبرِ يدي".

وفى رحلتها إلى الحرية أو إطلالتها من النافذة، تستدرجُ الذات الشاعرة أصابعَ الهجرِ، بموّالٍ عتيق. فى السكونِ الجارح، يطلُّ صوتٌ ما على وحدتها، هى الهاربة من ذاتها، إلى ذاتها. هي، ببساطة، تُعيدُ فصلًا من رجلٍ كتبها على لغةِ الفساتين، ومَهَرَ غيم ذيولها بالوشايات. الذات الشاعرة، هنا، منذورة للرهافة، مفتوحة على الاحتمالات والاتجاهات كلها. 

ديوان. يشدنى المكان.. يكسرنى العطر

فى اغترابها ونأيها، تبدو كأنما لم تصلها رسائلُ الورد بعد، لم تسعفْها فواصلُ السُكْر. يلزمُها نزقُ عرّافات، وحفنةُ ضوءٍ، ونرجسٌ كثير، وعطرٌ يجمعُ أسماءها المتناثرة. هكذا تتهجى قصيدة الصمت ذاتها بذاتها، قبل أن يسقط العناق: "بِسطريْن من صوتِكَ الخافت/ تجرحُ عزلةَ النخيل/ أنقذَتنى من فيضِ حزنِك/ وكنّا كلَّما تحرّك بحرٌ فى لفتاتنا/ أو لمسنا الكرسى الفارغ فى المقهى/ ترتعشُ فى الكفّ زهورُ النار/ وفى حدائقِ البال يهتزّ العشبُ النديّ/ كنتُ كلَّما لبستُ عقد الياقوت/ لأشدُّنى إليك/ يسقطُ العناق".

وبقدر انطوائها على حضنها، كلَّما فتحتْ بابًا، أو أغلقتْ غرفَ النوم فى عيونها، تظل الذات متماسكة، على طول الخط. المكان، هو عنصر الثبات، الذى لا يتبدل أبدًا، رغم سيولة الزمان كعطر طيّار منفلت. هذه الذات المتعددة، التى تسكنها قبيلة من نساء، تدرك بحسها الفطرى أن بقاءها ليس فقط بالتشبث بالمكان، بل إن المعنى الحقيقى للبقاء هو أن تصير الذات وشمًا للمكان: "مهرةُ الحنان أنا ويدي/ أشهى من عينيك/ فى هذَيانى تدخلُ قبيلةٌ من نساء/ أنا الغرق/ أُوشِمُ المدنَ بلوني/ أنا التى صدّقتُ الأبوابَ/ حين دقَّت على قلبي/ أنا وشْمُ المكان/ ياقوتُ العطش".

وكما أن الحديث الافتتاحى صمتٌ، فإن الكلام الأخير هو "اللا شيء"، الذى يغادر قبل أن يحضر. لكن هذا الذى لم يكن موجودًا أصلًا، قد يأتى بغتة كنرجسة، ولو فى الأحلام، ليرتق كل ما هو ممزق: "غادرْ كالكلامِ الأخير/ تعالْ كنرجسٍ/ يُنقِّحُ أصدائي". للشاعرة دائمًا قدرة على مزج الحكاياتِ الداكنة بطعم النبيذ، ليكون للمشهد مذاق أسطورة صغيرة، تكبر تدريجيًّا مثل دوامة، مركزها حجر لا يذكر أحدٌ من ألقاه، لكن أمرًا كهذا قد حدث، يستحق الاحتفاء، فكأنه طعنة فى قلب السكون: "أَلا اطْعَنى هذا الصمتَ الواشي/ ودعى الفساتين قصائدَ عطرٍ/ كالبدايات/ كخيطٍ يربطُ القلقَ بالغواية".

جميلة عبد الرضا، شاعرة تراهن على تلقائية التعبير الطفولي، تنشغل كلماتها بالنقاط، فى حين تحدّق عصافيرها فى المعنى، وتتحقق المراوغة الشعرية البريئة.