في القدس: كفيفات مبدعات ينتظرهن مصير مجهول

مجلة جنى - “أُبصر بقلبي لا بعينَي” هذا ما باحت لنا به الكفيفة هيام جرادات (29 عاما) التي لا تتوقف أناملها عن غزل الصوف سوى لحث إحدى الكفيفات حولها على التزام الصمت احتراما للضيوف، أو لمساعدة طفلة كفيفة أخرى في ترتيب ملابسها أو تصفيف شعرها.

لا تعرف هيام لون الصوف الذي بدأت مؤخرا بغزله لإنتاج بنطال جديد لطفل حديث الولادة، وعندما أخبرناها بلونه الأحمر قالت “لا بأس.. لون جميل”.

قبل تسع سنوات انتقلت من بلدة سعير شمال مدينة الخليل لمركز السلام للمكفوفات في بلدة شعفاط شمال القدس، بعدما أنهكتها نظرة المجتمع المتمثلة بالشفقة عليها ورفض المؤسسات دمجها في سوق العمل، رغم نجاحها بالثانوية العامة وحصولها على دبلوم بتخصص رياض الأطفال.

مركز المكفوفات بالمدينة المحتلة يوفر المبيت لهيام ولـ15 كفيفة أخرى تبلغ أصغرهن من العمر ست سنوات، ومعظمهن قدمن للمركز من قرى مهمشة في محافظات الضفة الغربية المختلفة.


هيام جرادات حفظت ستة أجزاء من القرآن الكريم على نظام بريل

الحدس واللمس
حفظت هيام جرادات ستة أجزاء من القرآن الكريم بنفسها من خلال قراءته على نظام بريل وترديد الآيات بشكل دائم.

وإلى جانب قضاء أوقات فراغها بغزل الصوف تعلمت الحياكة على الآلات وأعمال التدبير المنزلي لمساعدتها على الاستقلالية في تلبية احتياجاتها والتكيف في المحيط الذي تعيش فيه.

تتبع الكفيفات بالمركز حدسهن ويميزن بعضهن عبر اللمس، “حلا اجلسي.. أين هديل؟ أميرة ألا ترين أن سريرك يحتاج للترتيب؟ أنت فوضوية دائما.. ملابسك تتكوم فوق بعضها انهضي ورتبي حاجياتك” يتلفت الزائر حوله في حالة دهشة عميقة ويتهيأ لوهلة أنه هو من يعيش في الظلام، وليست النزيلات اللاتي يتنقلن بين غرفة وأخرى دون الاستعانة بالعصا الخاصة بهن أو حتى بلمس الجدران.

أميرة العملة (13 عاما) آخر من انضمت لمدرسة الكفيفات والسكن الخاص بهن قبل شهور،وذلك بعد رفض ثلاث مدارس استقبالها بسبب مشكلتها البصرية التي تتفاقم تدريجيا وتخشى الطفلة فقدان نظرها بالكامل خلال السنوات القادمة، الأمر الذي سيحرمها من تحقيق حلمها بأن تصبح رسامة في المستقبل.

تتهامس الكفيفات حول تخوفاتهن من إمكانية إغلاق المدرسة والسكن الذي يعتبر الدفيئة الوحيدة لهن، ويصدح صوت الفتاة منى الطاهر (15 عاما) عاليا لتقول “إذا أُغلق المركز أنا سأضيع”. فمنذ بلوغها سن السادسة احتضن المركز منى التي لجأت إليه قادمة من قرية كفر الديك في محافظة سلفيت شمال الضفة الغربية.


منى الطاهر تعشق اللون الأحمر لأنهم أخبروها أنه لون الورود التي تحب رائحتها

اللون والرائحة
تدرس منى في الصف الرابع الابتدائي وتعاني من مشكلات صحية أخرى إضافة لكونها كفيفة، تضحك كثيرا وتنصت لحديث من حولها أكثر. وللجزيرة نت قالت “أعشق اللون الأحمر لأنهم أخبروني أنه لون الورود التي أحب رائحتها، كما أخبروني أن لون عيوني أخضر لكنني لا أعرفهما.. أحب أن أكون متعلمة وأطمح أن أصبح طبيبة أطفال”.

ليلى علقم (32 عاما) أقدم الكفيفات في المركز وقدمت له عام 2002 وعما يعنيه لها قالت إنه الحضن الدافئ الذي يحتويها وشبيهاتها ممن ظلموا في مجتمع لا يتقبل الآخر المختلف.

جرأتها بالحديث عن إعاقتها البصرية تفتح شهية الفضول لدى الزائر لسؤالها عن عالم الظلام، وكان السؤال مباغتا كيف ترسمين ملامح الشخص الذي يجلس أمامك؟ فسارعت قائلة “أسأله أحيانا عن تفاصيل ملامحه وأرسمها في مخيلتي، وفي أحيان أخرى أجتهد في رسم ملامحه بنفسي من خلال تحسسه وسماع صوته”.

تأسس مركز السلام للمكفوفات عام 1983 بمبادرة من المقدسية الكفيفة ليديا منصور بهدف تأمين حقوق المكفوفات في التعليم والعمل والصحة، من خلال تزويدهن بمهارات الحياة اليومية والثقة اللازمة ليصبحن فاعلات في المجتمع لا عالة عليه.

وللمركز مبنيان في بلدة شعفاط أحدهما للمدرسة والآخر سكن متهالك لمبيت الطالبات والكفيفات المقيمات الأخريات وصاحبة المركز، التي غادرت حياتها الشخصية منذ افتتاح المركز وكرست وقتها للكفيفات.


ليديا منصور.. 35 عاما من العطاء دربت خلالها مئات الكفيفات 

غزل وحياكة
35 عاما من العطاء دربت خلالها ليديا مئات الكفيفات على غزل الصوف والحياكة على الآلات، وما زالت تواظب على عرض منتجاتهن الصوفية في بازارات ومعارض في القدس وخارجها، وتحصل الكفيفات من خلال بيع هذه القطع على دخل يؤمن مصروفهن الشخصي.

يحمل المركز رسالة إنسانية عظيمة حسب منصور لكن منذ عامين بدأت الرياح تجري بما لا تشتهيه سفن هذه الثمانينية بعد تقاعس الجهات المانحة عن تمويل المدرسة والسكن بالإيجارات، وتواجه ليديا والكفيفات قرارا من صاحب العقار بطردهن حتى نهاية الشهر الجاري من المنزل الذي يسكنّ به في حال تأخر دفع مبلغ الإيجار المستحق عليهن لعام 2017 والبالغ 48 ألف دولار أميركي.

وكما تتراكم الديون على السكن تتراكم على المدرسة منذ عامين وتبلغ 26 ألف دولار، وفي ظل الأزمة المالية تضطر ليديا منصور لإنفاق مخصصات الشيخوخة الشهرية الخاصة بها على الكفيفات بالسكن اللاتي يغادرن لمنازلهن في الضفة ليومين فقط كل شهر.

ودّعنا الكفيفات وليديا منصور دونما نعلم ما إذا تمكن من رسم صورة ملامحنا في الظلام أم لا، لكنهن حتما رسمن ملامح المرحلة المقبلة الأكثر ظلاما في حال طردن من مقرهن وعدن أدراجهن لقراهن المهمشة حيث لا يلقي لهن أحد بالا في مجال التعليم والتدريب المهني.