في لبنان ..النساء في زمن المشاركة السياسيّة: نظرة نقديّة إلى برامج “تمكين المرأة”

"مجلة جنى" اليوم، تتّجه أنظار الحراك النسوي المهتمّ بتعزيز مشاركة النساء السياسيّة نحو مجلس الوزراء العسير الولادة. من الخيبة في نتائج الانتخابات النيابيّة إلى الأمل في التشكيلات الوزاريّة. من خيبة إلى أمل. من أمل إلى خيبة. هكذا دواليك. بعد 6 أيّار 2018، ارتفع عدد النساء في البرلمان من 4 إلى 6 من أصل 128 نائبًا. عام 2016، عُيّنت وزيرةٌ واحدةٌ من أصل ثلاثين في الحكومة. في مراكز الفئة الأولى في الإدارات الرسميّة، حصصٌ للنساء لا تتعدّى العشرة في المئة.

أن يكون لبنان الدولة الأولى في المنطقة العربيّة التي كرّست حقّ الترشّح والتصويت للنساء عام 1952، وأن يكون يقبع اليوم، بعد مرور أكثر من نصف قرن على هذا الاستحقاق، في أسفل القائمات الدوليّة الخاصّة بنسب المشاركة السياسيّة للنساء، لَأمرٌ يستدعي منّا التوقّف عند هذه المفارقة، لا من أجل تكرار سرد الأزمات التي حالت دون تحقيق ما صبت إليه جهودٌ كثيفة من أجل الخروج من هذا المأزق الحقوقي، إنّما للتفكير أكثر في بعض جوانب العمل التغييري الحالي الهادف إلى رفع نسبة مشاركة النساء في الحقل السياسي التقليدي، ويُقصد به الميدان الذي تتحقّق فيه المشاركة المباشرة في مراكز القرار ضمن مؤسّسات الدولة الرئيسية.

في السنوات القليلة الماضية، برزت مبادراتٌ من قطاعات أهليّة، وحتّى اقتصاديّة ومصرفيّة، تنادي بضرورة مشاركة النساء في صنع القرار السياسي، وتقدّم التسهيلات التي تعود على بعضها، كالمصارف، بأرباحٍ معنويّةٍ وماديّةٍ، كما تُنفّذ برامج مصمّمةً لتمكين النساء عبر مناهج وجلسات تدريبيّة متنوّعة.

كان لافتًا أنّ معظم هذه المبادرات توجّهت حصرًا إلى “المرأة”، وغالبًا ما كانت تتوجّه إليها برسائل إيجابيّة تنطلق من افتراضين. الأوّل هو أنّ جلّ ما تحتاج إليه هذه “المرأة” هو تشجيعها وتعزيز ثقتها بنفسها، على اعتبار أنّها لا تعي جيّدًا أنّها قادرة بالفعل على المشاركة في الحقل السياسي. الثاني هو أنّ جزءًا كبيرًا من المشكلة يكمن في تردّد النساء في خوض غمار المشاركة والمنافسة نظرًا إلى ضعف خبرتهنّ في التعاطي مع مشاغل الشأن العام. بالتالي، اقتضى إعدادهنّ ليصبحن جاهزات على اقتحام هذا المعترك المجهول.
في هذين الافتراضين، تتبدّى ملامح قراءةٍ ذكوريّةٍ لغياب المشاركة النسائيّة السياسيّة، تضع “المرأة” بشكلٍ شبه استثنائي تحت المجهر، وتستبعد العوامل البنيويّة المترسّخة في المجتمع والدولة التي تُقصي النساء عمدًا عن المشاركة الفعليّة في صنع القرار، وتُخفيها خلف حججٍ سطحيّة يسهُل مضغها وتبنّيها حتّى من الأحزاب السياسيّة التي تمارس بنفسها الإقصاء الذي تدّعي محاربته.

صحيحٌ أنّ النيّة المحرِّكة لبعض المبادرات الساعية إلى تعزيز مشاركة النساء في صنع القرار السياسيّ تشجيعيّة وداعمة.

صحيحٌ أنّها تنطلق من واقعٍ مفاده أنّ النساء أُبعِدن لقرون عن الشأن العام، ممّا ساهم إلى حدٍّ كبير في عدم اكتسابهنّ بعض الخبرات اللّازمة للشروع فيه، ما صبّ في مصلحة استمرار الرجال في الاستيلاء على كلّ فرص المشاركة والوصول. ولكن، في المقابل، يمكن تحسّس نَفَسٍ أبويّ في الكثير من هذه المبادرات، خاصّة تلك التي يشكّل القسم التدريبي- التمكيني جوهرها الأساسي وهي الأكثر رواجًا، يفترض أنّ النساء في حاجة دومًا إلى التلقين. إلى التدريب. إلى التعلّم. أمّا الرجال، فحتّى ولو لم يكن لديهم أيّ خبرة في العمل السياسي، فهم جاهزون في الفطرة، ولا خوف عليهم من الفشل. وبالعاميّة، “ما بيعيبُن شي”.

إنّ هذا الهوس بتلقين النساء، يُذكّر بظاهرة مبادرة الرجال التلقائيّة، وبأسلوبٍ تلقيني عمومًا، إلى تفسير أيّ أمر للنساء، حتّى ولو كنّ على إحاطةٍ به، وهو ما عُرف بأوساطٍ غربيّة بالـmansplaining. كما يختبئ وراء الهوس بتدريب النساء وتحضيرهنّ للترشّح، خوفٌ عليهنّ، لا منهنّ. يمكن أن يُعزى ذلك إلى أنّ النساء، في سياقاتٍ نضاليّة، لا يمثّلن أنفسهنّ كأفراد، بل يُحمَّلن وزر تمثيل “طائفة” النساء برمّتها، ليترتّب على فشل واحدة منهنّ فشل النساء أجمعين.

في موازاة كلّ تلك الجهود والصراعات، يستمرّ الساسة الذكور في إنتاج الفشل. أمّا الخوف، فلا يزال منهم، لا عليهم.

أن تأتي مبادرة أو امرأة لتشجّع أخرى مهتمّة بالشأن العام، أمرٌ جميل وحاجة لا بدّ منها.

أن تمدّها بالأدوات المعرفيّة والماديّة حين تكون لا تمتلكها، وتطلبها مبادرةٌ سخيّة ومطلوبة في ظلّ غياب العدالة في توزيع الموارد.

ولكن أن تُبنى البرامج الداعمة لمشاركة النساء في المجال السياسي التقليدي على قراءةٍ للواقع مفادها أنّ النساء غير مدركاتٍ لقدراتهنّ وثرواتهنّ المعرفيّة، وبالتالي وجب تدريبهنّ، ففي ذلك مقاربةٌ تحمل إرثًا بطريركيًّا متخفّيًا وراء عبارات التشجيع وأفعال الأمر ودعوات المبادرة الذاتيّة.

المعوقات الاجتماعية والقانونية

في لبنان، تتفوّق النساء والفتيات في المجال العلميّ والتربوي، وليس الجهل ما يعوق وصولهنّ، ولا العجز عن البحث عن المعلومات حول الوضع السياسي في لبنان وكيفيّة الترشّح والمشاركة، إنّما هي المعوقات الاجتماعيّة والقانونيّة، مثل نظم الأحوال الشخصيّة، التي تحدّ من خياراتهنّ وحريّتهنّ، وغياب التدابير التشجيعيّة المرحليّة في كلّ القوانين الانتخابيّة.

أكثر من ذلك، هو الشأن العام نفسه الذي يحدّ من الرغبة في الوصول إليه. فهو، في شكله الحالي، خالٍ من أيّ مقوّمات تجذب النساء إليه (وغيرهنّ من الفئات) لأنّ صياغته أبويّة بامتياز: بدءًا من طريقة تناوله لما هو سياسي، مرورًا باختياره لما يُعَدّ مسألة عامّة أو أولويّة سياسيّة، وصولاً إلى أساليبه الخطابيّة والأدائيّة الرجوليّة السائدة.

لِمَ قد تنجذب امرأة إلى عالمٍ لم تساهم في صياغته من الأساس؟

ربّما لأنّها لا تعرف غيره عالمًا بديلاً من ذاك الذي مكثت معظم وقتها فيه. وهي، على الأرجح، محتاجة إلى “انجذابٍ مفتعل” نحو هذا العالم، تمهيدًا للوصول إليه لإعادة حياكته. فليست هذه الخطوة بجديدة في تاريخ الحركات النسويّة، أو في قصص النساء اليوميّة، إذ تشكّل جزءًا معتادًا من المسار التفاوضي الذي تخوضه النساء يوميًّا مع المنظومة الأبويّة. يتفاوضن معها في كلّ لحظة وفي شتّى الميادين ليحصلن على اعترافٍ رسميّ بهنّ وبحقوقهنّ، في وقتٍ يُراد لهنّ أن تبقى هذه الحقوق مرهونةً بشروط ضيّقة، وبالممكن إعطاؤه، لا بما يستحققن.

كلّما استمرّ إقصاء النساء…

ما يبدو واضحًا في إشكاليّة مشاركة النساء السياسيّة أنّه كلّما استمرّ إقصاء النساء عن الحقل العام، تعمّقت الفجوة بين الاثنين، وبقي “الانجذاب المفتعل” بينهما خافتًا، وظلّت مساهماتُ النساء اليوميّة في المجالات الخاصّة والعامّة مساهماتٍ غير مرئيّة، أو موصوفة بالثانويّة مقارنةً مع تقديمات الرجال المباشرة والمرئيّة. أمّا الحلّ، فليس بمحورة البرامج التغييريّة حول تدريب النساء وتلقينهنّ، بل بالإيمان بهنّ، بنجاحاتهنّ، بإخفاقاتهنّ. الأهمّ، بإزالة ما بناه الميليشيويّون من سواتر ترابيّة تعوق وصولهنّ لا إلى “السياسة” وحسب… بل إلى حيث ما يشئن.