"مجلة جنى" أروى الزهراني جدة - تُكرّم مصر الشقيقة في دوري السابع لمونديال القاهرة للفن العربي: صوت الأرض وأيقونة العواطف "طلال مداح" تقديرًا منها لأغنياته ..
أعادني هذا الخبر للوراء قليلًا ، بعيدًا حيث أنا وأمي، وصوت يهز برقّته الأعماق المعطوبة ..
لا أدري من هو صاحب الفكرة الأولى في مسألة تقدير أحدهم وبالأخص الراحلون عنًا والباقون بآثارهم، ومع أني لن أكن الأولى في القياس ولست الأخيرة، إلا أننـي ومن خلال هذا المنبر أواصل مسيرة التقدير والإجلال وخاصةً فيما يخص الأحداث المحسوسة التي لم يشهدها سوى شخص تلقّى الوقع وأبقى عليه مُخلّدًا في جوفه..
على مستوى الاستحقاق والجدارة والمغنى فكُلنا نعرف أن الركائز ليست قابلة للجدل أو الاختلاف، وليس هذا محور حديثي، أتحدث هُنا عن علاقة قُدسية ربطتني بالوراثة مع المدّاح طلال، أسدد في وجه الزمن ضربة وفاء وعرفان رغمًا عن الموت الطويل الذي يحرض على النسيان والتماهي في الحياة، وكلما رددت أمي: "مقادير يا قلب العنا" أنطوي وإياها في تجربة حساسة من الهذيان الذي وثّقت تفاصيله مقطوعات المداح، ننطوي في زاوية من النشوة والحزن في ذات الوقت، وكأننا نعيد تأبين هذا الميت الحي في أعماق تجاربنا كلها..
حوّل هذا المداح تجاربنا العادية إلى أسمى التجارب، صيّرنا عُظماء بعواطفنا الموثّقة بأغنياته، أتذكر أنني في كل مرة ساورني فيها الخوف واليأس والحب والألم ، كنت أفتش بثقة العارف في أغنياته فأجد ما يعتريني كله دافئًا حانيًا وكأنها التفاتة طبطبة من خلاله فأستكين في عز الخوف وأزهو في خضم التيـه، وأنتشي من خلال تعاستي ..
حدثتني أمي ذات مرة: لم أكن لأنسجـم مع خِلافاتي مع والدك لولا أننـي كنتُ كمعظم نساء جيلي / أتكئ على المذياع بصُحبة رِقة طلال التي من أجلها عفوت عن النهاية البائسة وجمّلتها بالرهافة عوضًا عن الشتيمة ..
باستطاعتي أن أغدو مكررة عادية، وسيبدو هذا اتفاقًا مع طقوس الآخرين لكنني ورثت الرّقة التي نشأت من خلالها، ما زالت ترافقني تهويدة طلالية بصوت أمي كلما أنهكتني النُسخ عُدت وآثرتها على كل شيء هنا، أُدين لأمي وجيلها، لنشأتي وقراراتها في التنحّي عن النزال من أجل الرهافة، أُدين للنبع الجاري في أرواحنا وذواكرنا ، للروح التي ابتكرتنا فغدونا شخوص متفردة حتى في سوءاتها، تتجسد في شخوصنا آثار مبهرة ، تشي خصيصاً بأنّا نشأنا بأحاسيس ظافرة بالنقاء والوداعة ..
"عرفتك واحنا لسه صغار"
عرفنا بها المدّاح ، وباتت أغنية العُمر ، قنطرة المسافة الطويلة ، الإلهام في مركزية وعينا الاستثنائي ..
لن تستطيع أن تقرأ تقديرك في أعيننـا، ولا أدري إن كُنتُ الآن على هذه الأرض أو أننـي هُناك حيث أود بشدة أن تخبو حقيقة الموت للحظة وأتواتر في التأمل كمن يثب إلى الرحابة بلا انتهاء.
فتحت لنا آفاقًا من السعة، بينما كل شيء يُلاحقنا كلعنة، سنظل أبدًا كذوات تعرّت وتلفعّت بتدفقاتك: في حاجة إليك لتتحرر رحابتنا من قيظ الزمن والرتابة.