المساواة بين نصفي المجتمع الفلسطيني للباحث والصحفي مهند عبد الحميد

"مجلة جنى" لا أعتقد أن أحداً يجرؤ على رفض العدالة  التي ينتفي عبر تحقيقها  اضطهاد الانسان للانسان، تلك العدالة  المأمولة التي  تلبي المساواة في الحقوق والواجبات بين أبناء المجتمع الواحد. وفي الطريق الطويل إلى العدالة من المفترض أن يجري العمل على  إزالة  العقبات التي تحول دون تحقيقها،  كأشكال التمييز على أساس الجنس او العرق او الدين . هذا مدخل مقالي،  لطرح سؤال المساواة بين نصفي المجتمع الفلسطيني. السؤال الإشكالي الذي  يستدعي البحث فيه، الانطلاق من معايير تحررية  في قراءة الواقع وأزماته المتفاقمة.  ثمة مرجعيات معتمدة من السواد الاعظم من دول العالم بما في ذلك فلسطين،  يمكن الاحتكام  لها في التشخيص وفي العمل والانجاز؟.إنها منظومة القوانين والعهد والاتفاقات الدولية  التي تجسدت في تسع معاهدات دولية أساسية لحقوق الانسان أهمها،  الشرعة الدولية لحقوق الانسان.  العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية،  واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة.

المرجعية هي  الخلاف الأساسي الذي تدور رحاه  في فلسطين، ما بين،  اتجاه يدعو الى اعتماد المنظومة الدولية حول حقوق الانسان والعدالة والحقوق المدنية والمساواة، تلك المنظومة  التي تتشارك فيها جميع شعوب ودول العالم باستثناء أقلية، وقد وقعت فلسطين على سائر اتفاقات ومعاهدات تلك المنظومة. هذه المنظومة المواكبة لتطور المجتمعات والمتضمنة لكل إيجاب في تراث وحضارات الشعوب بما في ذلك التراث الروحي الديني. وهناك اتجاه آخر يدعو الى اعتماد التشريع الديني فقط، أو رفض كل ما يتعارض معه في كل القوانين، ويؤيد الانعزال عن عملية التغيير العالمية السائرة نحوالعدالة. للاسف يملك هذا الاتجاه نفوذا اجتماعيا معززا بثقافة محافظة مصدرها المدرسة الدينية المتزمتة السائدة في فلسطين والعالم العربي والعالم الاسلامي. مع أن المدارس الدينية العقلانية التي سادت سابقا، اعتبرت أن الثابت الذي لا يتغير هو العبادات فقط، بينما العلاقة بين البشر متحركة ومتغيرة بتغير الشروط،  ولا يمكن إخضاعها لفقهاء الزمن القديم.

القوانين السائدة في فلسطين، وبخاصة قانون الاحوال الشخصية، وقانون العقوبات ييسران إخضاع النساء للسلطة الذكورية المجتمعية والسياسية. وعنوان الإخضاع تشريع وتثبيت ولاية أو قوامة الرجل، وهما بهذا يتناقضان مع الحقوق المدنية وحقوق الانسان ويكرسان التمييز على أساس النوع الاجتماعي. يُغفل المدافعون عن التشريعات القديمة  حقيقة التحولات الكبيرة في مجال التعليم الذي سجل تفوقا صريحا للبنات، ويتجاهلون الكفاءات النسائية المتعاظمة في كل الحقول بما في ذلك إعالة الأسر، يغفلون حقيقة أنه بدون شراكة في الدخل (العمل) لا تستطيع أجيال ما بعد تسعينات القرن العشرين بناء أسر جديدة تعيش حياة كريمة.

المنظومة السياسية  ( منظمة وسلطة ومعارضة )صانعة القرار في مختلف القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، تعاني من اختلال عنوانه ضعف شديد  في مشاركة المرأة في اتخاذ القرارات بشكل عام وضعف مشاركتها في اتخاذ قرارات تمس مكانة وأدوار وحقوق النساء في المجتمع بشكل خاص. في غياب المرأة المدافعة عن العدالة يكون القرار ذكوريا بامتياز. ذا دققنا في  نسبة النساء سنجد 6.7%  في اللجنة التنفيذية، و10.8% في المجلس الوطني، و5.4% في المجلس المركزي، و8.3% في القضاء الشرعي،  و16.5% في الحكومة وتبدو النسبة متقاربة  في قيادة الاحزاب والتنظيمات والوزارات  والمؤسسات الحكومية والوظائف العليا في مؤسسات السلطة. كما نرى تغيب الشراكة الفعلية في صنع القرار والذي يترتب عليه استمرار الغبن والتمييز ضد النساء.

 عمل النساء المنتج والاعتماد على الذات يشكل أهم العوامل في تحررهن الاجتماعي ومساواتهن بالنصف الاخر من المجتمع الفلسطيني. تبلغ نسبة النساء في سوق العمل 19% في الوقت الذي تبلغ فيه البطالة في صفوف النساء ثلاثة أضعاف البطالة في صفوف الرجال. 40% من النساء يعملن بأجر أقل من الحد الادنى 1450 شيكلا. وتقل أجور النساء عن الرجال  في العمل المتساوي بنسبة 30%. ولا تزال اغلبية ساحقة  حوالي اكثر من 90%  من النساء يحرمن من حقهن في الارث. يستنتج من ذلك ان النساء يقعن في دائرة التبعية الاقتصادية للرجال، التبعية تعني تمييز واضطهاد وخضوع. وهذا يشكل اهم الكوابح امام  تحرر النساء.

العامل  الذي يستطيع أن يؤثر في العوامل الأخرى ويستطيع دعم العدالة والمساواة هو الفكر التحرري المرتبط بمشروع تحرري، وبحامل اجتماعي يتبنى فكر وثقافة التحرر.  غياب الفكر التحرري يجعل كل حديث عن تحرر المرأة بلا معنى أو مضمون. المشكلة الأعوص تكون عندما تتبنى النساء فكر وثقافة اضطهادهن والتمييز ضدهن بما في ذلك ممارسة العنف ضدهن. في فلسطين يوجد رغبات ونوايا بالتحرر لدى نساء كثيرات ويوجد ناشطات نسويات وإعلاميات  وروائيات  وفنانات يدافعن عن قضايا المرأة، ولكن للاسف لا يوجد فكر نسوي تحرري، لا  يوجد نساء ورجال يعطون أهمية لانتاج فكر نسوي تحرري كجزء أساسي من فكر التحرر الوطني والاجتماعي الفلسطيني . كما هو الحال في تونس ومصر ولبنان والمغرب أمثال ( رجاء بن سلامة وأمال قرامي ونوال السعداوي وهدى شعراوي وفاطمة المرنيسي واميلي نصر الله وجمانة حداد .. وغيرهن ).  لا يوجد اشتباك - ديمقراطي - = مع الثقافة والفكر المناهضين للتحرر الاجتماعي وشبه السائدين، ولا يوجد تفكيك للخطاب الديني المتزمت، ولا يوجد تدخلا يحول دون استخدام التعليم  ومؤسساته الرسمية في إعادة انتاج ثقافة السيطرة والتلقين . فلسطين راهنا لا  تواكب الفكر التحرري والتنويري الذي يتشكل  ويبنى عبر سجالات ومناظرات  شديدة الاهمية على صعيد عالمي وعربي. على سبيل المثال، تجري مراجعة عميقة للمدرسة الفكرية الدينية المتزمتة في مصر وبلدان عربية أخرى على قاعدة تغليب العقل على النقل ونزع القدسية عن أكثرية الفقهاء الذين استخدمتهم السلطات السياسية المستبدة تاريخيا  لفرض سيطرتها، للأسف ليس من بين هؤلاء المفكرين فلسطينيون. وفي غياب التأسيس لفكر تحرري مفتوح على كل تطور وإنجاز، سنبقى نتعامل بالشعارات الفارغة، ستبقى القوانين والقرارات والتعليم والحريات والمؤسسات بتوقيع الفكر الرجعي السائد.سيبقى الخلط  والازدواجية والتماهي بين التحرر واللا تحرر، سيبقى المجتمع خاضعا لعادات وتقاليد عفى عنها الزمن. ما تقدم  يطرح قضية تحرر المرأة نصف المجتمع  كقضية لا تنفصل عن تحرر المجتمع ككل، كما أن التحرر الوطني لا ينفصل عن التحرر الاجتماعي.  وبالمثل فإن اعتماد معايير ومرجعيات تجعل  تحررنا جزءا من التحرر في المنطقة والعالم مسألة في غاية الاهمية .  لا شك في أن قضية التحرر يعوزها فكر وثقافة وديمقراطية التحرر، يعوزها منظومة قوانين عادلة، وشراكة حقيقية في صنع القرارات، وفرص متكافئة في العمل لمواطنين على قدم المساواة في الحقوق والواجبات.

بقلم: مهند عبد الحميد/ صحفي وباحث / رام الله