الفيلم التونسي "صمت القصور" .. سيرة مراهقة موهوبة ترفض تكرار حياة الأم

"مجلة جنى" كانت عالية مراهقة تعيش في أسرة ممتدة كثيرة الأفراد يسكنون ويأكلون ويرقصون معا؛ لكن في لحظة فرز مفصلية، لحظة التقاط صورة جماعية، اتضح أن هناك فوارق، فنصف سكان البيت خارج الكادر، كل ذلك في مملكة تونس منتصف القرن العشرين.

أدركت المراهقة عالية (أداء هند صبري) أن الخدم واللقطاء منبوذون خارج الكادر في فيلم “صمت القصور” 1994 للمخرجة التونسية الراحلة مفيدة التلاتلي.

وكأن كل هذا لا يكفي المراهقة التي لم تنفصل عن طفولتها بعد، إذ فجأة تكتشف مصيبة بين فخذيها، هربت واختفت، ومنذئذ تغيرت نظرتها إلى نفسها وإلى العالم.

لقد كان دم الحيض ولا يزال سببا عميقا في تحقير النساء وتأكيد نقصهن، فبسببه منعت النساء من دخول المعابد حسب هيرودوت. وقد حكى ابن الزيات سيرة ولي مغربي مفرط في الصلاح، “ولي لا يأكل ثمرا قطفته امرأة حائض” (التشوف إلى رجال التصوف ص 308).

على خلفية هذه النظرة الراسخة للمرأة، نتابع قصة مراهقة نكرة ترفض تكرار حياة أمها، تبحث عن الاعتراف. في صراعها من أجل تحررها، تكتشف عالية ذاتها، تمر لقطات تستوعب فيها أنها تكبر بينما يتقلص فضاء حركتها تدريجيا داخل أسوار القصر. كلما كبرت عالية قل حيز الأمكنة التي يحق لها أن تدخلها وتتنقل فيها بحرية. تحدد لها أمها أين ينبغي أن تجلس، لذلك قصدت باب القصر الحديدي وصرخت ضد سجنها. كان ذلك في فيلم “صمت القصور” إيذانا بميلاد ممثلة من عيار كبير.

حصل الفيلم على المرتبة الأولى في استفتاء أفضل 100 فيلم للمرأة في تاريخ السينما العربية الذي قدم في الدورة الخامسة لمهرجان أسوان الدولي لسينما المرأة 2021، بإشراك وتعاون كمال رمزي وناهد صلاح وأحمد شوقي، وبمشاركة نحو 70 ناقدا من العالم العربي. وقبل ذلك، كان الفيلم قد احتل الرتبة الخامسة لأفضل عربي حسب استفتاء مهرجان دبي السينمائي 2013. كما حصل على جائزة الكاميرا الذهبية في مهرجان كان 1994.

بعد ربع قرن على صدوره، ما زال فيلم “صمت القصور” مؤثرا. ما سر قوته؟ وما الذي يثبت أن كاتبة السيناريو المخرجة مفيدة التلاتلي تتملك عالم المرأة وتعبر عنه بعمق؟

فيلم يروي أسرار القصر التي لا تروى، يستخدم الفلاش باك لحكي الماضي أساسا، لحكي قصص خطية جرت في الماضي، كان مشهد السلم هو لايت موتيف الفيلم، يوحي نزول السلم بالتدهور أو بالمغادرة، سلم يربط ماضي المراهقة بحاضر المرأة، في حظة أزمة تغرق عالية رأسها في حوض الماء ثم تجد نفسها في جنازة حيث ينبعث الماضي الأعمى دفعة واحدة على لسان عجوز تحكي عن امرأة “خانها حزامها”…

يصور الفيلم قلب المدينة القديمة والعقلية القديمة التي تعتبر النساء مجرد وعاء. لذلك، يستمتع سادة القصر بما ملكت أيمانهم ويكرهون من يعاكسهم، يطلبون الطاعة التامة، وخاصة في الفراش.. وهكذا، تعيش الجارية مأساة بسبب فخذيها.. هنا تكتشف عالية سببا غريبا لضعف موقع النساء، إنه تنافس الجواري على فراش السيد.

حسب تشارلز داروين، فإن “التنازع من أجل الحياة أكثر شراسة بين الأفراد والضروب التابعة لنفس النوع” (أصل الأنواع، ص 135).. إن العدو الأول للجواري هن نساء الأسياد. عداوة امرأة لتحرر جارتها أو منافستها لا حدود لها، ما تطلبه امرأة ما لابنتها لا تطلبه لزوجة ابنها.

تتعايش عالية مع سؤال معلق فوق رأسها كمطرقة. بحثا عن رد اعتبار تسأل من هو أبي؟ لا جواب. الصمت يهيمن، لذلك يلتقط صدى أنين مقموع مكتوم داخل اسوار عالية. ولهذا تفاعلات.

كلما قمعت عالية صدمت، لا يعالج البخور الصدمات. كلما تعمقت صدمتها زاد وعيها ببؤسها. تناضل من أجل كسر مسار سلالتها لكي لا تعيد حياة أمها. فهمت عالية حياتها فجرت نحو آفاق الطيور المعتقلة، تكره المطبخ وتعشق العيش في مكان واسع فخم فيه لباس فاخر. مكانيا، كان يحق لعالية أن تكون تحت فقط. السهرة التي تجري فوق خاصة بالأسياد فقط، وحين ارتقت عالية فوق فقد حصلت على الاعتراف بفضل فنها. صارت نغمة العود الحزينة تعبيرا عن الذات. يمكن للنجاح الفني أن يعوض غياب الأب.

استخدام مونتاج جدلي، فنساء الطبقة العليا يتجملن ونساء الطبقة السفلى يكدحن، هكذا يعرض المونتاج الجدلي التناقضات، تعرض لقطات الزمن الميت بالعرض البطيء. توجد صلة دلالية بين المشاهد، تعكس اللقطات قلق الأم وهي ترى ابنتها تكبر، كانت عالية شخصية مركبة. لذلك، كانت نساء القصر يروين ماضيهن المرير في مستقبلها المشؤوم. نساء غارقات في قدرية شديدة مفادها أن ليس بإمكان البشر تغيير مصيرهم، بينما تريد عالية تغيير مصيرها، لذا استحقت دور البطولة. تكره عالية الطناجر وتحب العود، تريد أن تعزف لا أن تكدح. عالية شابة تريد أن تتحرر، لكي تتحرر يجب أن تتنكر لعائلتها التي تخجل من بناتها. رحلت.

عالية شابة تحب الفن، تحب الحياة، تخاف حتى بعد الرحيل، تشعر بأنها مراقبة، كل نظرة بصاص تجعلها تشعر بأنها فقدت جزءا من ذاتها. بعد سنوات، تقع المغنية عالية في مشكلة، ويفضح رد فعل صديقها الثوري؛ فهو لا يختلف كثيرا عن الأسياد السابقين. الجديد هو أن عالية صارت تملك قرارها خلافا لأمها.

في النصف الثاني من الفيلم، يتقاطع ارتفاع وعي عالية بشقائها مع تصاعد الاحتجاجات العمالية ضد الاستعمار الفرنسي. وهكذا، تخرج أحداث الفيلم من المطبخ المعتم إلى آفاق أكثر رحابة. لقد صار صوت الكادحين مسموعا وهو يربك صمت القصور التي تتحصن فيها نخب تقليدية مرعوبة من التغيير. انتقلت عالية من غناء عاطفي إلى غناء مسيس. حينها، حطمت الفنانة عالية صمت القصور، أسمعت صوتها وصوت شعبها.

إن فيلم “صمت القصور” دراما اجتماعية عميقة عن وضع النساء الصعب في جنوب وشرق البحر المتوسط، في زمن ما بعد الحركة الإنسية وما بعد الحداثة.

هذا حكي فيلمي عميق من مخرجة تملك معرفة عميقة بمجتمعها. إن فهم وضع النساء في المجتمع هو معطى غير جاهز لأي مخرج أو كاتب سيناريو؛ الأمر معقد ويحتاج معرفة ومعايشة. السوسيولوجيا هي مح ومخ السينما. وتحويل ذلك الفهم وذلك المعيش إلى حكاية تستجيب لمتطلبات الكاميرا أمر أشد تعقيدا.

هذا هو الفيلم الذي حصل على المرتبة الأولى في استفتاء أفضل 100 فيلم للمرأة في تاريخ السينما العربية الذي قدم في الدورة الخامسة لمهرجان أسوان الدولي لسينما المرأة، وقد فتح ذلك الحدث نقاشا وطرح أسئلة. هل كان الاستفتاء ضروريا ومفيدا؟

يفترض طارح الأسئلة أن المشهد بخير بدون استفتاء وبدون نقاش.

طبعا، كان استفتاء أفضل 100 فيلم للمرأة في تاريخ السينما العربية مفيدا عن سينما المرأة؛ فهو استفتاء فتح نقاشا، وهو الدافع إلى هذا الاستطلاع، وقد يدفع إلى استطلاعات أخرى. جرى حساب التصويت بطريقة دقيقة.

شخصيا، صوتت على الأفلام التي كانت أكثر انتصارا نظرتها الحداثية. والاستفتاء تمرين ديمقراطي بغض النظر عن مخرجاته، وهو مناسب للسينما وهي فن حداثي. من يبحث عن الإجماع يستخدم معايير ما قبل الحداثة.

بما أنه سبق تنظيم استفتاءات بالمعايير نفسها وبالمصوتين أعينهم ولم تثر جدلا مثل هذا الذي يخص أفلام المرأة. ما الجديد؟ الجديد والمتغير الوحيد في هذا الاستفتاء هو الجندر. يحصل توتر لا إرادي حين يكون وضع المرأة موضوعا للنقاش.

مدخل الحداثة هي تحرير المرأة في جنوب وشرق المتوسط، وهذا التحرير ضروري على مستويين: الأول اقتصادي واجتماعي؛ والثاني فني بزيادة حضورها الإيجابي في المتخيل الجمعي، بحكي سير نساء يناضلن لتحطيم القيود التي تكبح انطلاقهن.

لقرون طويلة، كتب الرجال عن الرجال وكتب الرجال عن النساء. آن الأوان أن يتوقف هذا الاحتكار. وها هي مفيدة التلاتلي تقدم حكاية مراهقة في لحظة تاريخية. حسب مارت روبير، فإن “الرواية هي تاريخ النساء”، ويمكن قول الكلام نفسه عن السينما التي تنجح أفلامها حين تروي سير بطلات طموحات مثل فيلم “كبرياء وأحكام مسبقة” 2005 لجو رايت، الذي ترفض بطلته أن تعامل وفق أحكام مسبقة؛ لأن ذلك يمس كبرياءها.

هذا الاستفتاء العربي أو ما يوازيه من ندوات ونقاشات هدفه دراسة التجارب الفنية وتقويمها؛ لفتح نقاش حول دور الفن في المجتمع، للقيام بنقد يساعد على الفرز ما بين الفن الحقيقي والمزيف، ليشعر الفنانون الذين بذلوا جهدا بتغذية راجعة تطور ممارساتهم، لتستفيد الأجيال المهتمة بالفن من تجارب السابقين.

يمكن للمهرجانات المقبلة في شمال إفريقيا والشرق الأوسط أن تطرح استفتاءات وندوات ومبادرات لدعم المرأة الفنانة، وللدفع بالحداثة الفنية التي صنعت طفرة في طريقة تأويل العالم؛ تأويل يعيد إلى الأنوثة وضعها الاعتباري.