حنظلة المُصاب بالأسئلة... أطفال الحرب في غزة

"مجلة جنى" حنظلة المُصاب بالأسئلة... أطفال الحرب في غزة - بقلم رواند حلّس

توقّفت عند جملة الإصابات النفسية، وفكّرت؛ هل تعرف غزة بهذا المصطلح أصلًا؟ إذ يبدو ضربًا من العبثية أمام أشكال الإصابات التي يتعرض لها الأطفال خاصةً، وبعد سماعنا إلى شهادات الأطباء الذين اضطرّوا لبتر أطراف الأطفال دون تخدير.

في غزّة، يتعلّم الأطفال صياغة الأسئلة قبل أن يعرفوا الكلام، ويصبحوا فلاسفة دون قصد منهم. وتُعلّمهم الأسئلة الحياة، بأبشع الوسائل التي قد تستخدم لتعليم طفل! يقود سؤال: "أين يذهب البيت في الحرب؟"، إلى درس الحياة عن البيت، والذي تشوّهت صورته إلى الأبد، وكان من المفترض أن يكون عبارة عن رسمة ملوّنة، يرسمها الطفل على مقعده في المدرسة، كأوّل شيء نتعلّم رسمه لسهولته، بخطوط قليلة، وألوان كثيرة. ويعلّمهم سؤال: "أين أمّي؟" في الحرب، الدرس الأقسى؛ إن عليه أن يكبر وحده، ويعود إلى البيت بقيّة عمره تاركًا هذا السؤال على باب البيت في الخارج، دون أن يدخله معه. وبإمكان أكثر الشعراء سوداوية في العالم، أن يكتب أكثر قصيدة صاخبة، من سؤال الطفلة الناجية من تحت الركام لطواقم الإسعاف: "أنا عايشة؟ عمو رح تاخدوني على الجنة؟".

بعد كل مشهد يسأل فيه الطفل منهم سؤالًا، يُخلق اختبار قاس للعالم مكّون من أسئلتهم هذه. ولا أظنّ أن أي إجابة ستكون عادلة بالنسبة لهم، أو سيكون بإمكانها أن تنفض الرماد الذي خُلق منه السؤال، عن ذاكرتهم التي تختنق بكثرة الأسئلة؛ حتى يتحوّل الطفل في نهاية الحرب، إلى علامة استفهام سوداء في عدمٍ أبيض، يُدعى العالم. لن يكونوا الأطفال بالنسبة له أكثر من نماذج لنظرياته في الصحّة النفسية، هذا إذا كلّف نفسه عناء الالتفات لهم.

هل ثمّة من يُحصي صدماتهم؟ أو على الأقل، يلتفت لأسئلتهم التي يحملونها عن الحياة في هذا العمر؟ بإمكاني إعداد قاموس بالأسئلة التي سألها الأطفال في كلّ مرة تحدثوا فيها، وبقيت أسئلتهم معلّقة في الفراغ، أمام حواس مندهشة وعاجزة، وسماء غائمة لم تصلها الأسئلة بعد، على ما يبدو.

في المقابل، شاهدتُ تقريرًا يتحدّث عن إصابات الجنود الإسرائيليين في العدوان الذي يشنوه على غزة، ومن ضمن أنواع الإصابات التي عرضها التقرير، الإصابات النفسية، وما سيعانيه هؤلاء الجنود من "اضطراب ما بعد الصدمة"، عندما ينتهون من هندسة الصدمة بأيديهم في القطاع.

توقّفت عند جملة الإصابات النفسية، وفكّرت؛ هل تعرف غزة بهذا المصطلح أصلًا؟ إذ يبدو ضربًا من العبثية أمام أشكال الإصابات التي يتعرض لها الأطفال خاصةً، وبعد سماعنا إلى شهادات الأطباء الذين اضطرّوا لبتر أطراف الأطفال دون تخدير. في الواقع، التعبير عن الحالة النفسية بالنسبة لأهل غزة، رفاهية لا يمتلكون الوقت لها، ولم يستطيعوا الالتفات إليها حتى في أيام الهدنة القليلة التي حظوا بها؛ فالألم مرتّب لديهم حسب الأولويات، وسيحصون جراحهم النفسية فيما بعد، دون تقارير رسميّة بالطبع.

وبالحديث عن التقارير الرسميّة، لم أجد تقارير حديثة عن الحالة النفسيّة للأطفال الذين سألوا أسئلتهم، وعادوا لابتلاعها؛ فتحوّلوا لكائنات تسير بعينين مشرعة نحو اللاشيء، وكل شيء، وممتلئة بقطع محطّمة من شظايا الأسئلة حول اللغز الذي لم يختاروا الخوض فيه. وفي الأصل، لستُ بحاجة لإحصائية ما، لأنّي كنتُ يومًا من هؤلاء الأطفال، الذين حملوا أسئلتهم ندوبًا تذكرهم بالمكان الذي جاؤوا منه، والطريقة التي يجب أن يعيشوا بها لنزع الإجابات من فم العالم، دون أن ينتظروا إجابات مغلَّفة ومُغلِّفة. وسيتعلّمون كيف يحرسوا أحلامهم بقيّة حياتهم، كما حرسوا سؤال "متى تنتهي الحرب؟"، طيلة أيامها.

في العالم الخارجي، وأعني بالخارجي أيّ مكان خارج البقعة الجغرافية التي تشغلها غزّة على كوكب الأرض، تُصاغ الإجابات عن سؤال الفقد الذي قد يسأله الطفل إذا تعرّض له، باجتماع جيوش الأطباء النفسيين، وأولياء الأمور، والمرشدين الاجتماعيين في المدرسة، والجيران المُراعين، كوكلاء للإنسانية؛ للخروج بإجابات منمّقة لن تشكّل للطفل عقدة نفسية ما في المستقبل. أمّا في غزة، يضطرّ الطفل أن يسأل عن الفقد بأقسى صوره؛ البيت، والعائلة، والأطراف، دون أن يجد من يهرع للتعامل مع سؤاله. يُصاغ السؤال بمفردات يجب ألّا تكون ضمن قاموسه الطفوليّ بعد، فيجد نفسه بين موقفين، إمّا وحيدًا مع أسئلته حتى آخر يوم من حياته، أو مع إجابات صنعها وحده، بذات المفردات التي صاغ بها الأسئلة؛ يسمّيها العالم بلاغة وفصاحة لسان، وأسمّيها إصابة بليغة في الطفولة.

يتعامل الأطفال مع هذه الأهوال غير المفهومة بأسئلتهم، ويعبّرون عن خوفهم بعلامات استفهام "فصيحة"، يجب ألّا تمرّ على أسماعنا دون تعليقها أمام أعيننا؛ لأن الحرب ستنتهي، وسيتوقّف الموت بشكله المألوف عبر آلات واضحة وصريحة، ويبدأ موت آخر كان قد تغذّى على الموت الأول، يحصد الأذهان والأرواح ولن يتوقّف، يرافق الطفل إلى مستقبله بصوره الكثيرة؛ يكبر تحت جلده، وفي قرنيّته، وتحت أظافره، وعلى سريره كآخر شيء يشاهده قبل أن يغمض عينيه، ويسبح في أحلامه، وكأوّل شيء يذكّره بهويّته في الثواني الأولى من استيقاظه.

على عتبة باب العالم

ينزل من سيارة الإسعاف

طفل بعيون مكسّرة

وبأقدام رخوة  

كأنّ جثّة غاضبة

أتت تسأل

يدور حول نفسه مرّتين

يبحث عن الله

ويحمل على ظهره

وبين يديه، أسئلة

سألوه أن يرميها في الطريق 

ويطلب الصبر

 والمغفرة

فخبّأها في مقلتيه المكسّرة

الناجي الوحيد من المجزرة

لا يريد غفرانًا

ويشكّ أن الله قد يغضب

إذا شكا له طريقة الموت هذه

وطلب منه أن يختار

على الأقل

أن يموت مع بقيّة العائلة

الطفل التائه في المطر

تسحبه من الخلف يدًا لا يعرفها

فيترنّح تمثاله في يد الفراغ

تحميه الأسئلة الثقيلة التي يحملها على ظهره

من السقوط

تزيده تقوّسًا

فيظن الناس المتحلّقين حوله

أنه سجد

تفلته يد الفراغ ليكمل سجدته

وتلتقط له صورًا باليد الأخرى

فيمتلئ الفراغ بالتهليل للطفل المعجزة

وتسقط الأسئلة
 

المصدر: مجلة رمان الثقافية

اقرأ أيضا