ليلى الأخيلية رائدةُ حرية الرأي

" مجله جنى " بلغت عاطفتها الأدبية بلوغ النضج، في تأملاتها الوجودية، والبحث عن الحقيقة، رغم استسلامها للقدر والحقائق الجديدة حولها، فاتفق معظم النقاد على غزارتها في بحورها الشعرية القوية لفظًا وتأثيرًا

بعض الأديبات العربيات قبل الإسلام جمعن بين صفات نادرة من الصعب أن تجتمع في شخصية واحدة، فكُنَّ ذوات ملاحة وبلاغة وأنفة وكبرياء، حيث تحلّين بالكثير من الجمال والبهاء، فضلاً عن قوة الحضور وسحر المهابة مع ما تفرضه شخصياتهن على الآخر من احترام وتقدير، هذا بالإضافة الى براعتهن في الفصاحة والذرابة، فالشاعرة تماضر بنت عمرو السلمية الرفيعة الشأن نوديت بالخنس "الخنساء" لبهجة وجهها، وليلى بنت المهلهل كانت ذات كبرياء ودلال.. وجمال قول في الشعر والأدب، أما ليلى الأخيلية فهي المختلفة في عصرها وعصور غيرها، ليس فقط لما تميزت به من حُسن الوجه والحضور الآسر، بل لأن لها الكثير من الحكايات والمواقف مع الساسة والصحابة والشعراء وغيرهم، حكايات صالحة للسرد والنقد أدبًا ودهاءً، فهي لم تمجدها سوى حرية القول في شعرها ونثرها.

عاشت ليلى الأخيلية طويلاً أغلب عمرها في صدر الإسلام، غير أنها تشرّبت جُل أدبها من شعر الجاهلية، وكان حضورها فيما مرت به من أحداث سياسية كبرى في جزيرة العرب حضورًا فيه من الإقدام ما يوازي قدر موقفها الحر في أن تعبر عن رأيها دون احتراس، حيث كانت من الحكمة ورجاحة العقل في أن تساير ما يحدث تارة بالولاء، خاصة حين كتبت قصيدة رثاء بحق أمير المؤمنين الخليفة عثمان بن عفان بعد مقتله، وتارة أخرى بالانتقاد حين هجت الحجاج بن يوسف الثقفي بإبداء رأيها فيه بكل حرية، وتارة بالصمت إن لم يكن للموقف السياسي ما لا يستحق أن يقال حوله رغم ضجة طبوله الفارغة، لذا خلا شعرها من الخوف السياسي أو القبلي.

مقابل ذلك بلغت عاطفتها الأدبية بلوغ النضج، في تأملاتها الوجودية، والبحث عن الحقيقة، رغم استسلامها للقدر والحقائق الجديدة حولها، فاتفق معظم النقاد على غزارتها في بحورها الشعرية القوية لفظًا وتأثيرًا، وبرأيي لأنها أكثرت من الرثاء، وهذا اللون يغلب عليه الحزن، فأتت قصائدها عميقة عما يجري حولها، فكان أعمق ما قدمت من رثاء هو ما قالته بعد فقدان وموت حبيبها وابن عمها "توبة" الذي لم يزوجوها له.

ذكرها شعراء كبار جاءوا بعدها بقرون وعدّوها من أفصح الشاعرات وأغزرهن بحرًا، في شعرها تأنقٌ موسيقي قد أثر على سلوكها حيث وصفت ليلى بأنها حسنة المشية وحسنة الثغر.. وهذا لا ينفي أنها كانت على قدر من الشجاعة يجدر عدم إغفالها، بدءًا من شجاعتها أمام الحجاج بن يوسف الثقفي، في هجائها له، ومن ثم في الاعتداد بنفسها في مواضع شعرية كثيرة، وانتهاءً بموقفها الشُجاع والبليغ أمام معاوية بن أبي سفيان، حين أجابته عن صفات ابن عمها وعشيقها "توبة" بأنه: "سبط البنان، حديد اللسان، شجي للأقران، كريم المختبر، عفيف المئزر، جميل المنظر".. نعم لقد كانت شجاعة لا جريئة كما يحلو للبعض وصفها، فالجرأة تحمل معنى الحماسة والقدرة أكثر من الأنفة والإقدام ورباطة الجأش والجسارة.

الأخيليةُ ليلى النجدية والتي يعود نسبها لبني عقيل عامر بن صعصعة، كان الفرزدق قد فضّل شعرها على نفسه، كما ضرب أبو تمام بشعرها المثل، واستحسن أبو العلاء المعري بلاغتها، والحقُّ لقد إستوقفتني كثيرًا قصيدتها "الرائية" التي رثت فيها ابن عمها "توبة" بأطول قصيدة قالتها امرأة، هذه الرائية الحرة في التعبير عن محبتها وموقفها المجتمعي والقبلي وما أتى من جديد عليهم.. بلغ عدد الأبيات فيها ثمانية وأربعين بيتًا، حكمت فيها أحكامًا متتابعًا على الحياة والموت، مفرغة إياها من أية مسحة دينية، متجلّية بحزن لامثيل له في التاريخ الشعري.. حتى لقد أقسمت بأنها لن تحزن على أحد بعد توبة.

ولعل حضورها الثقافي الساطع هذا قد ألهمنا درسًا بأن حرية القول في الأدب هي شجاعة لا جرأة، لذا حين تصبح الكلمة حرة ولا تخشى الأحداث، يصبح البيان أشبه بإنسان فاضل زاهٍ بكبرياء وفروسية.. حينها يتفوق الأدب والشعر والحقيقة على كل شيء.