يوميات “نمرود” فلسطيني

"مجلة جنى" نادرة هي الأفلام التسجيلية التي تركز على عوالم وهواجس شخصيات عربية، كما يفعل بجدية وصدق متميزين فيلم “نمرود” للمخرج النمساوي “فرناندو روميرو فورسثوبر”، فهو لا يكتفي بأن يضع شخصيته الرئيسية المغني والموسيقي الفلسطيني “جوان صفدي” في كل كادر منه، بل يهتم بحياة هذا الفنان وما يشغله، ويركز أيضاً على طبيعة الظروف المحيطة به، وعلاقة جوان بها، وتفاعله معها، وكيف يؤثر هذا كله في الموسيقى الفريدة التي يكتبها ويغنيها ويتحدى ويشاكس بها الموروث الاجتماعي والديني والوضع السياسي من حوله، والمتوتر دائماً.

ينتمي “جوان صفدي” إلى المشهد الموسيقي العربي المهمش، والذي يعمل بالظل وبإمكانياته الذاتية البسيطة، بعيداً عن اهتمام الإعلام السائد. جوان ينتمي أيضاً إلى مجموعة منسيّة، فهو من عرب 1948، والذين يعيشون وضعاً اجتماعياً مُعقداً كثيراً. يحتفل الفيلم التسجيلي بكل هذه التعقيدات، ويأخذ المشاهد إلى قلب القلق الجماعي لفلسطيني إسرائيل، فجوان مشغول كثيراً بموقعه في بلده، هو وعرب غيره مازالوا يحاولون أن يبقوا “شمعة القضية” مشتعلة، كما وصف أحد شخصيات الفيلم. كما يشارك جوان دوريا في تظاهرات تذكر بوضع أبناء شعبه ومظلوميتهم، مثل التي نظمت بمناسبة يوم الأرض، والتي نقل الفيلم بعضاً من أجوائها عن طريق سلسلة من المشاهد الحزينة حقاً.

بجانب “جوان”، يفرد الفيلم مساحة مهمة لابنه المراهق “دون”، والذي يحاول أن يجد طريقه وسط حياة لا تبدو سهلة أبداً. يعثر الفيلم على سكينة لافتة لسرد كل التفاصيل الصاخبة من يوميات شخصياته، كما يخصص مساحة للموسيقى التي يكتبها ويغنيها جوان، والتي تختلف بجدالها الداخلي عن موسيقى الحب والفراق العربية التجارية المهيمنة.

ينتظر الفيلم التسجيلي جولة واسعة على مهرجانات سينمائية في أوروبا، حيث سيعرض في الأشهر القادمة في مهرجانات: “دوك برشلونة” في إسبانيا و”دوك ميونخ” في ألمانيا. كما سيعرض في مهرجان السينما المستقلة في حيفا.

وذلك حوار مع المخرج فرناندو روميرو فورسثوبر:

هل كان اهتمامك كصحفي محب لعوالم الموسيقى المستقلة هي التي قادتك إلى جوان صفدي، وما الذي جذبك في شخصيته ليجعلك تنجز فيلماً عنه؟

في الحقيقة أنا بدأت كناشط إنساني في الضفة الغربية في عام 2005، وبعدها باشرت في لقاء مجموعة من الفنانين الفلسطينيين الذين يعملون في عالم الموسيقى. وفي عام 2009 بدأت في عمل فيديو كليبات لفنانين فلسطينيين. صورت اثنين مع جوان صفدي وقتها، قبل أن نبدأ بالعمل على هذا الفيلم التسجيلي. عندما سمعت كلام أغانيه للمرة الأولى (هو يترجم أغانيه دائماً إلى اللغة الإنجليزية)، عرفت أنني أمام فنان استثنائي. جوان روح حرة، وأسلوبه في التعامل مع القضايا المختلفة في حياته يؤثر فيّ دائماً.

متى بدأت بالتفكير والتخطيط لهذا الفيلم التسجيلي، وهل وافق جوان مباشرة على المشروع، أم كان لديه بعض الشروط؟

كل شيء بدأ في عام 2010 تقريباً، عندما قررت مع صديقي الفنان الفلسطيني المعروف باسم “عاصفة”، عمل فيلماً تسجيلياً عن مجموعة من الفنانين الفلسطينيين. قمنا ببحث موسع وقتها، والذي قادنا إلى الضفة الغربية وإلى إسرائيل حيث يعيش عرب عام 1948 (لم يكن بمقدور “عاصفة” الذهاب معنا إلى إسرائيل لأنه من فلسطيني الضفة الغربية وبالتحديد مدينة رام الله).

قابلت جوان للمرة الأولى في إسرائيل، وأصبحنا أصدقاء جيدين حقا منذ البداية. استضافني في بيته عدة مرات. وعملنا سوياً فيديو كليبات موسيقية. كان من المفترض أن يكون جوان في المشروع الأول عن الفنانين الفلسطينيين، بيد أن المشروع ذاك ظل في مرحلة التطوير. وفي مرحلة لاحقة، وُلدت الفكرة لعمل فيلم عن جوان وحده، لأني شعرت أنه قادر على تجسيد نوع من الروح الفلسطينية التي يمكن للكثيرين التعرف عليها. كما أنني أحببت موسيقاه لدرجة كبيرة، والتي تعد فريدة من نوعها في هذه المنطقة.

ولأننا أصبحنا أصدقاء جيدين حقا، وعملنا أشياء سوياً. يمكنني أن أقول إن جوان كان دائماً متفاعل ومؤمن بالمشروع، وأتصور أنه لم يكن يملك أي شكوك بخصوصه. وكلا، لم يكن لديه أي شروط. كل شيء حدث في جو ودود وعفوي.

“صانع المشاكل” هو عملك التسجيلي الأول، هل كنت تملك خططاً واضحة حول الأسلوب الذي كنت تريد أن تصور به شخصياتك في الفيلم؟

لقد كنت صديق لجوان أولا وقبل كل شيء، وكان من المهم كثيراً لي أن نستمتع بأوقات التصوير، وأن نقضي أوقاتاً جيدة أثناء هذا المشروع. والمهمة الأخرى لي، كانت جعل جوان وابنه يشعران بالارتياح أمام الكاميرا. حتى يتصرفان بشكل طبيعي كما يفعلان دونها. وهذا أمر أعتقد أننا حققناه.

يتنقل اهتمام الفيلم بين جوان وابنه المراهق “دون”، هل كان هذا مقصوداً؟ وهل قصدت أن توزع الاهتمام بالتساوي بين الشخصيتين أثناء التصوير، أم إنك أردت أن تركز على هذا التفصيلة في مرحلة لاحقة، وبالتحديد، أثناء توليف الفيلم؟

الفيلم بالتأكيد كان فيلماً عن أب وابنه، بيد أن ليس هناك مشاهد يظهر فيها “دون” لوحده. نحن رغبنا أن يكون جوان، كفنان وبالغ وأب، القوة التي تحرك الفيلم، وأن يكون الشخصية الرئيسية فيه. على الجانب الآخر، “دون” كان الوحيد تقريباً الذي كان قادراً على تحدي ومواجهة جوان” بشكل شخصي، وهذا كان أمراً مُهماً للفيلم. بالإضافة إلى ذلك، كان تواجدهما معا مُسلياً كثيراً. هذه التنويعة العفوية كانت مهمة منذ البداية، فيما بذل المونتير النمساوي “وولفغانغ أور” جهداً كبيراً لإبراز هذه التفاصيل ببراعة.

صورت مواجهة بين جوان وامرأة إسرائيلية يهودية، هل لك أن تخبرنا عن ظروف تلك المواجهة؟ وهل شهدت على مواجهات أخرى بينما كنت تصور فيلمك، لكنها لم تصل إلى النسخة النهائية من الفيلم؟

تلك المواجهة حدثت في مسرح المدينة في مدينة حيفا، قبل دقائق من عرض مسرحية كتبها فلسطيني قضى سنوات في السجون الإسرائيلية. هذه المسرحية كانت السبب الذي جعل إسرائيليون يهود يأتون للمسرح من أجل الاحتجاج. وأتذكر بشكل جيد، فإن المسرحية تلك كانت السبب أيضاً الذي جعل الحكومة الإسرائيلية تقطع كل الدعم الحكومي الخاص بذلك المسرح.

أما بالنسبة إلى الشق الثاني من سؤالك، فكلا، لم نصور مواجهات أخرى أثناء تسجيل يوميات جوان، ولم نكن نبحث عن هكذا مواجهات أيضاً، رغم إنني أتصور أنه ليس من الصعب التعثر بمواجهات مماثلة، خاصة مع الأجواء المتوترة هناك.

الوضع السياسي يُغيم على الحياة اليومية في إسرائيل والأراضي الفلسطينية، وعلى حياة الشخصيتين الرئيستين في الفيلم. شاهدنا جوان وأصدقائه العرب في فيلمك، لكننا لم نسمع الكثير من المعسكر الثاني، هل موضوع التوازن في عرض الآراء كان أمراً مقلقاً لك أثناء العمل على هذا الفيلم؟

بالنسبة لي شخصيا فهذا الموضوع لا يقلقني أبداً. هذا الفيلم يهدف إلى تسليط الضوء على حياة جوان وابنه وأصدقائه. هو بهذا المعني ليس مشروعاً صحفياً. ثم أليست مهمة الأعمال التسجيلية الفنيّة الاهتمام بشخصياتها الرئيسية بالدرجة الأساس، ولا حاجة لها للفت الانتباه إلى حياة الآخرين. لا أعتقد أن الاهتمام بآراء شخصيات إسرائيلية يهودية متطرفة، أو شخصيات إسلامية أو أي شخصيات أخرى لها أفكار تختلف عن تلك التي يحملها جوان أو “دون”، كان من الممكن أن تجعل هذا الفيلم أفضل.