فصل من رواية “سامو“ للكاتبة المصرية منى برنس

"مجلة جنى" دار سامو بعينيه محاولا التعرف على المكان الذي أفاق فيه. انتبه أنه في خيمة و داخل كيس نوم. لا يتذكر مع ذلك كيف و متى دخل خيمته. أزاح الكيس جانبا و تمطع ثم اعتدل على قوائمه و فتح باب الخيمة و نظر خارجها. لم يكن متأكدا في أي وقت هو من اليوم. ليل و نجوم، و نصف قمر بعيد يتدلى من فوق قمة جبل، و بقايا جمر ما زال مشتعلا. أحس بالعطش فخرج ليبحث عن ماء فوجد طبقا مملوء بماء مثلج جوار خيمته. انكب على الطبق وأخذ يلعق الماء بلهفة رغم برودته. وقف على ساقيه الخلفيتين و طبطب على صدره و هو يشعر بالانتعاش و قد زال أثر النوم عنه. جميع القطط نيام، لا يسمع سوى بربرة هادئة تنم عن نوم عميق. تسحب على مهل محاذرا التخبط في أشياء مبعثرة و احداث أي ضجيج. تملكته رغبة عارمة في المشي و اكتشاف المكان. أخذ يسير علي مهل ينظر إلي الجبال و يتأمل في تشكيلاتها. تبدو مختلفة كثيرا عما هي في النهار. ربما ظل القمر او الضوء المنبعث من النجوم هو ما يجعل للجبال و هيئاتها هذا البريق الساحر. تناهى إلى سمعه مواء حزين، أشبه بنواح مكتوم. تلفّت حوله. لم ير أحدا. و كلما اقترب في سيره ناحية صخرة عملاقة، تعالى صوت المواء النائح. فتح سامو عينيه على اتساعهما و نظر مجددا في كل الاتجاهات لكنه لا يرى أحدا. فقط صوت. صوت هو الموجود. و بمجرد أن وصل إلي الصخرة العملاقة ارتد فورا خطوتين او ثلاثة قفزا. فقد باغته الصوت بمواء حاد و عنيف كمن يدفع عنه أذى محقق. ارتبك سامو تماما و قرقر صدره بعنف. تقدم مجددا صوب الصخرة و حدث نفس الشيء. مواء حاد عنيف جعله يتراجع إلي الخلف لكن دون أن يثب. ابتعد عن الصخرة، فخفتت حدة المواء حتى صارت نواحا مس قلبه. ما الذي يحدث هنا؟ تساءل بينه و بين نفسه. من التي تنوح هكذ؟ أدرك سامو أن النواح لقطة و ليس قط، لكنه صادر عن صخرة عملاقة. كيف ذلك؟ لا يعلم. تأمل الصخرة من تلك المسافة الآمنة حتى لا يعلو النواح مجددا. ثم لف حولها. من بعيد يبدو أن لها فما مفتوحا كمن يصرخ، لكن لا توجد في ثناياها أية قطط، لا إناث و لا ذكور. ثم انتبه إلي وجود طبقين، أحدهما مملوء بالماء و الآخر به بقايا طعام. هل يعقل أن تحولت قطة ما إلى صخرة نائحة. لقد سمع من بعض معارفه أن هناك في بلاد بعيدة قططا لها عقيدة تناسخ الأرواح، أي أن روح القطة تحل في كائن آخر بعد مماتها. لكن هنا في هذه الجزيرة لا أحد يؤمن بذلك. أو ربما هنا في هذه المقاطعة يؤمنون بذلك. لكن هل يعقل أن تأكل الصخرة و تشرب ماء؟ سيسأل مونتي الكبير في الصباح. قرر أن يجرّب مرة ثانية ليتأكد أن ما سمعه ليس تخيلات. اقترب من الصخرة، فماءت بحدة و اندفاع. ابتعد. خشي أن يكتشف المزيد فتتبع آثار قدميه عائدا إلى البيت الجبلي. لكن قبل أن يصل البيت سمع مواء خافتا يناديه. فزع سامو و لم يتوقف. لكن المواء تسارع يناديه. التفت خلفه. توقفت قطة شابة بالقرب منه. هزّت زيلها و ابتسمت بحياء. بربر سامو غير فاهما.

“ ألا تذكرني؟”
وسّع سامو عينيه و نظر إليها ملياً محاولا تذكر من هي أو أين التقاها.
“ أنا روكا، تقابلنا في إحدى وقفات الحافلة، عندما كنت تتحدث عن نية ترشحك لرئاسة الجزيرة. و أعطيتني رقم هاتفك.”
جلس سامو على مؤخرته و خبط بيده على جبينه، قائلا، “ نعم نعم، أتذكر الآن. لكن ..” و احتار سامو كيف يكمل جملته.
“ أنا حفيدتها. أو بمعنى أدق من نسلها.” ماءت روكا بهدوء.
“ من هي؟” ماء سامو متسائلا.
“ لا أعلم بالضبط التاريخ، ربما منذ مئات السنين، حين كانت للقط الذكر السطوة و الحكم. هكذا تناقلت الحكاية جداتي السابقات. كان هناك قطتان، إحداهما متزوجة لكنها عاقر، و الأخرى لم تتزوج بعد و حلوة جدا. كانت الأولى تغار من الثانية، و في يوم اشتكت القطة الحلوة من ألم في بطنها، فقامت القطة المتزوجة بدهان بطنها بزيت من الأعشاب و لفهت لها بطنها عدة لفات فبدا بطنها منتفخا. شكرتها القطة الشابة كثيرا علي مساعدتها من دون أن يخطر ببالها ما تضمره لها صديقتها.” توقفت روكا عن الحكي تلتقط أنفاسها و تتنهد بأسى.
“ ماذا حدث؟” ماء سامو بقلق و قد شدّته الحكاية.
“ ذهبت القطة العاقر إلي أخي القطة الشابة و قالت له أن أخته حبلي من قط غريب. فماء أخوها هائجا و أقسم أن يقتلها. و بالفعل قبل فجر اليوم التالي استدرجها إلى تلك الصخرة متعللا بأنه وجد كنزا، و خنقها هناك.” و بدأت روكا تنشج.
اقترب سامو منها و مدّ ذراعه يطبط عليها.
“ و منذ ذلك الحين تموء الصخرة نواحا في الوقت الذي خُنقت فيه جدتي، و من يقترب منها تصرخ و كأنها تدافع عن نفسها. جداتي يقلن أن روح القطة حلّت في الصخرة، لذلك نضع لها ماء و طعام. و هي لابد أنها تأكل، لأننا نجد الطعام و الماء ناقصا.”
“ ربما قطط أخري هي التي تأكل و تشرب.”
“ لا، لا يقترب أحد من طعامها و مائها. فالكل يعلم الحكاية، حتى لو لم يتناقلها الذكور الذين يشعرون بالخجل و يخشون الانتقام.”
“ إذن انت من تضعين لها الطعام و الماء؟”
“ أحيانا أنا و أحيانا حفيدة أخرى إن لم أكن موجودة.”
بدأت الشمس تطلع من خلف الجبال و تنير المكان. و من البيت تناهى إلى سمعهما أصوات القطط تتحرك هنا و هناك في جلبة تحضير الفطور للزائرين و لهم.
“ عليّ أن أذهب الآن.” ماءت روكا و هي تهز رأسها باسمة جهة اليمين.
“ و متى سأراك ثانية؟” خرجت الكلمات من فم سامو قبل أن يدركها. “ أقصد…” و بربر متلعثما.
“ قبل طلوع الشمس بساعة ستجدني عند الصخرة. لكن لا تخبر أحدا، رجاءً.”
أومأ سامو برأسه و رفع يده مودعا.
عاد سامو إلى البيت الحجري فوجد مونتى الكبير يعد الشاي على النار و القطط الجبلية تخبز و القطط الزائرة تلم أغراضها استعدادا لرحلتها. ألقى تحية الصباح على الجميع و جلس بجوار مونتي صامتا.
“ هل تحب أن تنضم إلينا في رحلة المشي؟” سأله أحد القطط.
“ لا جلد لي على السير لمسافات طويلة و تسلق الجبال. سأتمشى هنا بالجوار.” ماء سامو مجيبا، و هو يتناول أكواب الشاي و يمررها على الباقين.
“ سيذهب سامو معي بالغنم لاحقا.” عقّب مونتي.
انصرفت القطط الجبلية برفقة الزائرين بعد أن قاموا بغسل صحون الفطور و رتبوا المكان. فتح مونتي باب حظيرة الغنم و ماء لها أن تخرج. هرعت الغنم إلى وعاء كبير في الحوش به بقايا طعام العشاء و طعام الفطور و التهمت ما به ثم شربت الماء من وعاء آخر. أغلق مونتي باب المطبخ و باب غرفة الخزين، و أخذ جركن مياه صغير مغطى بقماش سميك و حقيبة من القماش وضع بها عدة الشاي و القهوة و تبغه الخاص، و جِوال من البلاستيك.
“ هيا.”
“ هل أساعدك في حمل شيء؟”
ناوله جركن المياه الصغير، و هو يقول له، “ انتبه فالغطاء مشروخ و ليس محكما.”
تبع سامو خطى مونتي و غنمه و إن لم يلحق به، فمونتي رغم تقدمه في العمر و تقوّس قوائمه إلا أن خطاه سريعة جدا تكاد تكون قفزات. كان سامو يتوقف مرارا ليرى مواضع خطوه ثم ينظر أمامه فيجد مونتي على بعض مئات الأمتار. ثم غاب عن نظره، فتحيّر سامو كيف يستمر، إذ لم ير أمامه مسلكا أو دربا. نادى علي مونتي، فظهر له من أعلي حجارة، و أشار له أن يتسلق بضعة صخور كبيرة. وصل سامو إلى أرض رملية فسيحة وسط جبال شاهقة لم يتخيل أبدا وجودها قبل أن يصعد. هذه الأرض غريبة، حدّث نفسه. واصلا المشي إلى بقعة ظليلة تحت شجرة زيتون عملاقة. افترش مونتي الأرض و أخرج محتويات حقيبته، فتبعه سامو، في حين انطلقت الماغز و الغنم تبحث عن الكلأ وسط الجبال.
جمع مونتي بعض الأغصان الجافة، أشعل النار و بدأ يعد الشاي بأطراف مرتعشة. تطلع سامو حوله. تذكّر الصخرة النائحة و روكا. كاد السؤال يفلت من بين شفتيه، لكنه ألجم نفسه و قد تذّكر طلب روكا بألا يخبر مونتي عنها.
“ كم أنت محظوظ يا مونتي لأنك تعيش وسط الجبال، تعيش بحرية.”
“ الحياة اختيارات.” ماء مونتي بحكمة و هو يومئ برأسه الصغير.
تفاجأ سامو بالرد. أية اختيارات؟ دار السؤال بذهنه و هو لا يري تلك الاختيارات من حوله.
“ لقد ولدت بالجبل، هناك.” و أشار إلي جبل ليس بعيد. “ بعد ذلك الجبل، فسحة أخرى مثل هذه التي نجلس بها.” صبّ الشاي و ناول سامو كوبه، أشعل سيجارة، أخذ منها نفس، و استأنف. “ ثم تزوجت و انجبت قططا كثيرة، و اضطررت للنزول إلى البلدة كي يذهب الصغار إلى المدرسة، فيتعلموا. أنا لم أتعلم، لكنني أعرف أن التعليم مهم. و إذا كنت حقا ترغب في رئاسة الجزيرة، عليك أن تهتم بموضوع التعليم، خاصة هنا. توجد مدارس، لكن لا يوجد مدرسين أكفاء، و كلهم من خارج المقاطعة، و يعيشون هنا كالمنفيين أو كمن يقضي عقوبة.” هزّ سامو رأسه موافقا. فأضاف مونتي، “ و المستشفى أيضا. كارثة. عندما يمرض أحدنا، و لم نستطع مداراته بالأعشاب، نضطر للسفر إلى مقاطعة برما و أحيانا إلي العاصمة كي نحظي برعاية أفضل.” ماء سامو متنهدا، فهو يعرف عن تلك المآسي، لكنه يرغب الآن في معرفة كيف قرر مونتي العيش في الجبل، فسأل مباشرة، “ و كيف عدت إذن إلى الجبل؟”
“ لا خُلق لي على حياة المدينة. لا خلق لي على الجلوس أمام التلفزيون. أنا أحب غنمي، و غنمي يحب الجبل. هنا أشعر بالقوة.”
“ و زوجتك؟”
“ هي لا ترغب في العيش في الجبل، تقضي اليوم مثل البلهاء تشاهد التلفزيون أو تتسامر مع صويحباتها الغبيات مثلها.”
“ لكن كيف قبلت عائلتك مثل هذا التصرف، أن تعيش بمفردك. حسب علمي، فذكور القطط لا ينبغي لهم ذلك، عندنا في العاصمة، و في باقي الجزيرة، لا أحد يستطيع فعل ذلك.”
“ هنا أيضا، لكنني أصررت علي ذلك. و الأولاد يأتون لزيارتي من حين لآخر. و كما ترى، يأتي أيضا زائرون و يتركون لي نقودا مقابل المبيت. هذا عمل، و أنا أشعر بالفخر أن لي دخل مستقل و أنني أساعد أولادي أيضا بعملي.”
كان سامو يحس بمشاعر متباينة، دهشة و فخر و حسرة. هذا القط فعل ما لم يفعله أحد من قبل.
“ ليت لي ربع قوتك و تصميمك.” ماء سامو متنهدا.
“ لديك. و ستحقق ما تريد.” ماء مونتي و هو يسحب الجوال البلاستيكي و ينهض.
“ ابق هنا، سأجمع حطبا و أرى أين ذهبت الماعز.”
أنا خائف، بربر سامو لنفسه. رفع رأسه إلى الجبال سائلا أن تمنحه صلابتها و رسوخها. تمدد علي ظهره و قرر أن يلف بعينيه على الجبال و يرى ماذا تقول له. بالتركيز، رأى أفواها، أنوفا، و جباها و عيونا، و أذن، ترسم وجوها كثيرة. وجوها غاضبة، باسمة، حزينة، عابسة، مرحة. ثبّت بصره الحاد على الأفواه. معظمها أفواه مفتوحة. تبدو صارخة. العيون، بعضها حاد و بعضها ناعس، و بعضها يائس، و بعضها متربص. ما الذي تريد أن تبلّغه. هل سيسمعه أحد، هل سيجد أذن صاغية، أم سيعملون أذن من طين و أذن من عجين، كما يقول كبار عائلته. هل سيتركونه يفعل ما يريد، هل سيتعرضون له. تقلّب سامو في رقدته بعقل حائر وقلب يخور.
عاد مونتي يجر الجوال البلاستيكي الذي امتلأ عن آخره بحطب و أغصان جافة، وغنمه يتقاطر خلفه. نظر إلي سامو الذي كان قد اعتدل في جلسته شاخصا بصره إلي الجبل القريب.
“غدا سآخذك إلي صديق قديم يقرأ النوي.” وماء إليه أن يتبعه إلي البيت.