تغيَّر صوتُ العجوز، وازداد سـرعةً في إلقاء كلماتِه، ثمَّ احمرَّ وجهُه، وكادت تنقلب عيناهُ أو تبيضَّ، لا، ربما تهيَّأ ذلك للفتى، كما تهيَّأ له أنَّه يسمعُ أصواتاً غير مألوفة، أو مفهومة.
«هات الخاتم يللي بيدك».
«أيّ واحد؟».
أشار إليه وكتِفاهُ ينتفضان، فأوجسَ الفتى خيفةً، وراح ينتزعه،
«ذهب؟».
فُتحت النَّوافِذُ الحديديَّةُ غيرُ مُحكمَةِ الإغلاق فجأةً، فهبَّ من مكانه مذعوراً..
«آه يا عمَّي ذهب».
«منيح».
وعدَّلَ جلستَه، يطرقُ الخاتمَ بأنفاسٍ وتمتماتٍ مُبْهمة، والفتى ما زال واقفاً، تزكمُه رائحةُ البخور.
«بُكْرَه تجيب لي واحد مثله».
«ليش؟».
«عشان أغطسُه بالميِّه المباركة، وأنَجْمُه، وأبعثه مع القرين.. أقعد يا ولد، من إيش خايف».
.. جَلَس.
فرك الخاتم، ونفَثَ، ثمّ قدَّمه إليه، فبانت خريطةٌ من حروقٍ على كفِّه، شقَّ عبابَ العتمةِ بيد طيشٍ وتلقَّفه.
قذف مسحوقاً على النار الموقَدَة، فالتهبت، وأطلق البخورُ سطوتَه من جديد، ثمَّ تمتم العجوزُ، تمتمَ ونفث، وهو يراقبه بحماقة العشـرين، يتأمَّل أساورَ تصطف، و«دناديشَ» تتدلَّى حتى سـرته، فوقَ ثوبِ ساتانٍ مُخطَّط.
«كيف تنَجْمُه يعني؟».
«بحطُّه تحت ضوِّ القمر، وقبل الفجر أكمِّل الشغل عليه».
«يا عمِّي، أنا بدِّي إيِّاها تحبني وبس».
«كل ما تُفرك الخاتم، أو تلفُّه بإصْبعك، رايحة تفكِّر فيك، بس لا تضغط عليها كثير، فيه ناس يفقدوا عقلهم، وما يتحمَّلوا»..
«رح تحبني؟ تشتاق لي؟ تهتم فيّ؟».
أبدى لهفةً أغضبت العجوز، فطأطأ رأسَه في غياهبٍ من حواس.
«آه، شو احنا بنلعب، بكرة تجيب الخاتم الثَّاني، وتستلمه».. «انفث يا ولد، انفث عليه»
فرك الخاتم يوماً عن يوم ولم تفكِّر به، دوَّرهُ حول إصبعه مئات المرَّات ولم تشتقْ له، لم تحبَّه أو تهتمَّ به كما عوَّلَ على الخاتم، رغم محاولاتِه في لفت أنظارِها لم ينجح، ربَّما لأنَّها كانت تُعاني من صداع شديد، أفقدها السـيطرةَ على نفسِها، ومنعها من ممارسة نشاطاتها الحياتيَّة، أخفق الأطبَّاءُ في تحديد مصدر الألم، ولأن الحالةَ غريبةٌ، فقد رافقها بعضٌ من هلْوساتٍ وكوابيسَ، عزمت والدتُها على علاجٍ من نوع مختلف.
وبعد آلافِ الدَّورات التي أبدعها الخاتمُ، كانت تشقُّ ووالدَتُها عبابَ العتمة، تتأمَّلُ خريطةَ حروقٍ، وأساورَ تصطفّ، و«دناديشَ» تتدلَّى حتى السـرة فوقَ ثوبِ ساتانٍ مُخطَّط، والفتى يقضِمُ قلبَه، يلفُّ الخاتمَ، ينقلُه بين أصابعه، ويعصـر حزناً.
سمر الزعبي: قاصة من الأردن.